العقيدة في ضوء الكتاب والسنة
عالم الجن والشياطين
الدكتور عمر سليمان الأشقر
التعريف
بعالم الجن والشياطين
الجن عالم مستقل :
الجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة ، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث
الاتصاف بصفة العقل والإدراك ، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر،
ويخالفون الإنسان في أمور أهمها أن أصل الجان مخالف لأصل الإنسان .
لماذا سمّوا جنّاً :
وسمو جنّاً لاجتنانهم ، أي : استتارهم عن العيون ، قال ابن عقيل : " إنما
سمّي الجن جنّاً لاجتنانهم واستتارهم عن العيون ، ومنه سمي الجنين جنيناً ، وسمّي
المجنّ مجناً لستره للمقاتل في الحرب " (1) .
وجاء في محكم التنزيل : ( إنَّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) [ الأعراف :
27 ] .
أصلهم وخلقهم
المطلب الأول
أصلهم الذي منه خلقوا
أخبرنا الله – جلّ وعلا – أن الجنّ قد خُلقوا من النار في قوله : ( وَالْجَآنَّ خلقناه
من قبل من نّار السَّموم ) [ الحجر : 27 ] ، وفي سورة الرحمن : ( وخلق الجانَّ من
مَّارجٍ من نَّارٍ ) [ الرحمن : 15 ] . وقد قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ،
والحسن وغير واحد في قوله : ( مَّارجٍ من نَّارٍ ) : طرف اللهب ، وفي رواية : من
خالصه وأحسنه (2) : وقال النووي في شرحه على مسلم : " المارج : اللهب المختلط
بسواد النار " (3) .
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
خلقتْ الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم ) (4)
.
المطلب الثاني
ابتداء خلقهم
لا شك أن خلق الجن متقدم على خلق الإنسان ؛ لقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من
صلصالٍ من حَمَإٍ مَّسنونٍ – والجآنَّ خلقناه من قبل من نَّار السَّموم ) [ الحجر
: 26-27 ] ، فقد نصّ في الآية أن الجان مخلوق قبل الإنسان . ويرى بعض السابقين
أنهم خلقوا قبل الإنسان بألفي عام ، وهذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة .
المطلب الثالث
صفة خلقة الجن
(1)
نحن لا
نعرف من خلقتهم وصورهم وحواسهم إلا ما عرفنا الله منها ، فنعلم أن لهم قلوباً قال
تعالى : ( ولقد ذرأنا لجهنَّم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم
أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلُّ )
[الأعراف : 179] .
فقد صرح – تبارك وتعالى – بأن للجن قلوباً ، وأعيناً وآذاناً ، وللشيطان صوتاً ،
لقوله تعالى : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ) [ الإسراء : 64 ] . وثبت في
الأحاديث أن للشيطان لساناً ، وأن الجان يأكلون ، ويشربون ، ويضحكون ، وغير ذلك
مما تجده مبثوثاً في هذا الكتاب .
المطلب الرابع
أسماء الجن في لغة العرب وأصنافهم
قال ابن عبد البر : " الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان على مراتب :
1- فإذا ذكروا الجن خالصاً قالوا : جنّي .
2- فإذا أرادوا أنه مما يسكن مع الناس ، قالوا : عامر ، والجمع : عمّار .
3- فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا : أرواح .
4- فإن خبث وتعرض ، قالوا : شيطان .
5- فإن زاد على ذلك ، فهو مارد .
6- فإن زاد على ذلك وقوي أمره ، قالوا : عفريت ، والجمع : عفاريت " (5) .
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ ( الجن ثلاثة أصناف : فصنف يطير في الهواء
، وصنف حيّات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون ) . رواه الطبراني ، والحاكم ، والبيهقي
في الأسماء والصفات ، بإسناد صحيح (6) .
--------------------------------
(1) آكام المرجان في أحكام الجان : ص7 .
(2) البداية والنهاية : 1/59 .
(3) شرح النووي على مسلم : 18/123 .
(4) صحيح مسلم : 4/2294 . ورقمه : 2996 .
(5) آكام المرجان : 8 .
(6) صحيح الجامع : 3/85 .
إثبات وجود الجن
المطلب الأول
لا مجال للتكذيب بعالم الجن
أنكرت قلة من الناس وجود الجنّ إنكاراً كلياً ، وزعم بعض المشركين : أن المراد
بالجن أرواح الكواكب (1) .
(2)
وزعمت
طائفة من الفلاسفة : أن المراد بالجن نوازع الشر في النفس الإنسانية وقواها
الخبيثة ، كما أن المراد بالملائكة نوازع الخير فيها (2) .
وزعم فريق من المحْدَثين ( بفتح الدال المخففة ) : أن الجن هم الجراثيم
والميكروبات التي كشف عنها العلم الحديث .
وقد ذهب الدكتور محمد البهي إلى : أن المراد بالجن الملائكة ، فالجن والملائكة
عنده عالم واحد لا فرق بينهما ، ومما استدل به : أن الملائكة مستترون عن الناس ،
إلا أنه أدخل في الجن من يتخفى من عالم الإنسان في إيمانه وكفره ، وخيره وشره (3)
.
عدم العلم ليس دليلاً :
وغاية ما عند هؤلاء المكذبين أنه لا علم عندهم بوجودهم ، وعدم العلم ليس دليلاً
(4) ، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم علمه بوجوده، وهذا مما نعاه الله على
الكفرة : ( بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) [ يونس : 39] . وهذه المخترعات
الحديثة التي لا يستطيع أحد أن يكابر فيها ، أكان يجوز لإنسان عاش منذ مئات السنين
أن ينكر إمكان حصولها لو أخبره صادق بذلك ؟ وهل عدم سماعنا للأصوات التي يعج بها
الكون في كل مكان دليل على عدم وجودها ، حتى إذا اخترعنا ( الراديو ) ، واستطاع
التقاط ما لا نسمع بآذاننا صدقنا بذلك ؟!
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في ظلاله متحدثاً عن النفر من الجن الذين
صرفهم الله إلى رسوله ، فاستمعوا منه القرآن .
(3)
"
إنَّ ذكر القرآن لحادث صَرْفِ نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه
وسلم ، وحكاية ما قالوا وما فعلوا ، هذا وحده كافٍ بذاته لتقرير وجود الجن ،
ولتقرير وقوع الحادث ، ولتقرير أنّ الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه
العربي المنطوق ، كما يلفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتقرير أن الجن خلق
قابلون للإيمان وللكفران ، مستعدون للهدى وللضلال ، وليس هنالك من حاجة إلى زيادة
تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ، فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها سبحانه
ثبوتاً .
ولكنّا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني .
إنّ هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار ، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنهاً
وصفةً وأثراً ، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار ، نعرف منها القليل ، ونجهل
منها الكثير ، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار ، وندرك بعض هذه القوى ، ونتعرف
إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها ، وتارة بصفاتها ، وتارة بمجرد آثارها في الوجود
من حولنا .
ونحن ما نزال في أول الطريق ، طريق المعرفة لهذا الكون ، الذي نعيش نحن وآباؤنا
وأجدادنا ، ويعش أبناؤنا وأحفادنا ، على ذرة من ذراته الصغيرة ؛ هذا الكوكب الأرضي
الذي لا يبلغ أن يكون شيئاً يذكر في حجم الكون أو وزنه !
وما عرفنا اليوم – ونحن في أول الطريق – يُعدّ بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة
قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن ، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من
أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم ، لظنه مجنوناً ، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد
غرابة من الجن قطعاً !
(4)
ونحن
نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية ، المعدة للخلافة في هذه الأرض ، ووفق مقتضيات
هذه الخلافة ، وفي دائرة ما سَخّرَه الله لنا ؛ ليكشف لنا عن أسراره ، وليكون لنا
ذلولاً ، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض ، ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في
طبيعتها وفي مداها مهما امتد بنا الأجل – أي بالبشرية – ومهما سُخّر لنا من قوى
الكون ، وكُشِفَ لنا من أسراره – لا تتعدى تلك الدائرة ؛ ما نحتاج إليه للخلافة في
هذه الأرض ، وفق حكمة الله وتقديره .
وسنكشف كثيراً ، وسنعرف كثيراً ، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته ،
مِمّا قد تعدّ أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال ! ولكننا سنظل في حدود الدائرة
المرسومة للبشر في المعرفة ، وفي حدود قول الله سبحانه : ( وما أوتيتم من العلم
إلاَّ قليلاً ) [ الإسراء : 85 ] قليلاً بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار
وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وَقَيّومه ، وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود ،
ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله : ( ولو أنَّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ
والبحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [ لقمان : 27 ] .
فليس لنا والحالة هذه أن نجزم بوجود شيء أو نفيه ، وبتصوره أو عدم تصوره ، من عالم
الغيب والمجهول ، ومن أسرار هذا الوجود وقواه ، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي
، أو تجاربنا المشهودة ، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها ،
فضلاً عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا !
وقد تكون هنالك أسرار ، ليست داخلة في برنامج ما يُكشَف لنا عنه أصلاً ، وأسرار
ليست داخلة في برنامج ما يُكْشَف لنا عن كنهه ، فلا يُكْشَف لنا إلا عن صفته أو
أثره ، أو مجرد وجوده ؛ لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض .
(5)
فإذا
كَشَفَ الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى ، عن طريق كلامه – لا
عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضاً – فسبيلنا
في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم ، نتلقاها كما هي ،
فلا نزيد عليها ، ولا ننقص منها ؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقّى عنه مثل هذه
المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة ، وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل
هذه الأسرار ! " .
والقول الحق أن الجن عالم ثالث غير الملائكة والبشر ، وأنهم مخلوقات عاقلة واعية
مدركة ، ليسوا بأعراض ولا جراثيم ، وأنهم مكلفون مأمورون منهيون .
المطلب الثاني
الأدلة الدالة على وجود الجن
1- وجودهم معلوم من الدين بالضرورة :
يقول ابن تيمية (5) : " لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ، ولا
في أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم ، وجمهور طوائف الكفار على إثبات
الجن . أمّا أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فهم مقرّون بهم كإقرار المسلمين ،
وإن وجد فيهم من ينكر ذلك ، كما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك ... كالجهمية
والمعتزلة ، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرّين بذلك .
وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالضرورة ، ومعلوم
بالضرورة أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة ، بل مأمورون منهيون ، ليسوا صفات
وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره ، كما يزعمه بعض الملاحدة ، فلما كان أمر الجن
متواتراً عن الأنبياء تواتراً تعرفه العامة والخاصة ، فلا يمكن لطائفة من
المنتسبين إلى الرسل الكرام أن تنكرهم " .
وقال أيضاً : " جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن ، وكذلك جمهور الكفار
كعامة أهل الكتاب ، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد حام ، وكذلك جمهور
الكنعانيين واليونان من أولاد يافث ، فجماهير الطوائف تقرّ بوجود الجن " (6)
.
(6)
وذكر
إمام الحرمين : " أن العلماء أجمعوا في عصر الصحابة والتابعين على وجود الجن
والشياطين ، والاستعاذة بالله تعالى من شرورهم ، ولا يراغم هذا الاتفاق متدين
متشبث بمسكة من الدين " (7) .
2- النصوص القرآنية والحديثية :
جاءَت نصوص كثيرة تقرر وجودهم كقوله تعالى : ( قل أوحي إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من
الجن ) [ الجن : 1 ] ، وقوله : ( وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن
فزادوهم رهقاً ) [ الجن : 6 ] . وهي نصوص كثيرة ذكرنا غالبها في ثنايا هذه الرسالة
، وإن كانت كثرتها وشهرتها تغني عن ذكرها .
3- المشاهدة والرؤية :
كثير من الناس في عصرنا وقبل عصرنا شاهد شيئاً من ذلك ، وإن كان كثير من الذين
يشاهدونهم ويسمعونهم لا يعرفون أنهم جنّ ؛ إذ يزعمون أنّهم أرواح ، أو رجال الغيب
، أو رجال الفضاء ...
وأصدق ما يروى في هذا الموضع رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم للجن ، وحديثه معهم ،
وحديثهم معه ، وتعليمه إياهم ، وتلاوته القرآن عليهم ، وسيأتي ذكر ذلك في مواضعه .
رؤية الحمار والكلب للجن :
إذا كنا لا نرى الجن فإنّ بعض الأحياء يرونهم كالحمار والكلب ، ففي الصحيحين عن
أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم صياح
الديكة ، فاسألوا الله من فضله ، فإنها رأت ملكاً ، وإذا سمعتم نهيق الحمار ،
فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنه رأى شيطاناً ) (8) .
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار ، فتعوذوا بالله ، فإنهن يرون ما لا ترون ) (9)
.
ورؤية الحيوان لما لا نرى ليس غريباً ، فقد تحقق العلماء من قدرة بعض الأحياء على
رؤية ما لا نراه ، فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية ، ولذلك فإنّه يرى الشمس حال
الغيم ، والبومة ترى الفأر في ظلمة الليل البهيم ....
المطلب الثالث
الرد على الذين يزعمون أن الجن هم الملائكة
(7)
سبق أن
ذكرنا الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أن الملائكة خلقوا من
نور ، وأن الجن خلقوا من نار ) ، ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأصلين ،
وهذا يدل على أنهما عالمان لا عالماً واحداً .
ومن نظر في النصوص المتحدثة عن الملائكة والجن ، أيقن بالفرق الكبير بينهما ،
فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ،
والجن يكذبون ويأكلون ويشربون ، ويعصون ربهم ، ويخالفون أمره .
نعم هما عالمان محجوبان عنا ، لا تدركهما أبصارنا ، ولكنهما عالمان مختلفان في
أصلهما وصفاتهما .
--------------------------------
(1) مجموع الفتاوى : 24/280 .
(2) مجموع الفتاوى : 4/346 .
(3) تفسير سورة الجن : ص 8 .
(4) ليس لهم أن يحتجوا بما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان ينكر مخاطبة
الرسول صلى الله عليه وسلم للجن وتكليمهم له ، فإن إنكاره هنا للمشافهة لا للجن ،
ومع ذلك فغير ابن عباس كابن مسعود – يثبت مشافهة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .
(5) مجموع الفتاوى : 19/10 .
(6) مجموع الفتاوى 19/13 .
(7) آكام المرجان : ص 4 .
(8) رواه البخاري : 6/350 . ورقمه : 3303 . ورواه مسلم : 4/2092 . ورقمه : 2729 .
وأبو داود في سننه . انظر صحيح سنن أبي داود : 3/961 . ورقمه : 4255 .
(9) صحي سنن أبي داود : 3/961 . ورقمه : 4256 .
الشيطان والجان
المطلب الأول
التعريف بالشيطان
الشيطان الذي حدثنا الله عنه كثيراً في القرآن من عالم الجنّ ، كان يعبد الله في
بداية أمره ، وسكن السماء مع الملائكة ، ودخل الجنة ، ثمّ عصى ربه عندما أمره أن
يسجد لآدم ، استكباراً وعلواً ، فطرده الله من رحمته .
(8)
والشيطان
في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمرد ، وقد أطلق على هذا المخلوق لعتوّه وتمرده
على ربّه ( شيطان ) . وأطلق عليه لفظ ( الطاغوت ) : ( الَّذين آمنوا يقاتلون في
سبيل الله والَّذين كفروا يقاتلون في سبيل الطَّاغوت فقاتلوا أولياء الشَّيطان
إنَّ كيد الشَّيطان كان ضعيفاً ) [ النساء : 76 ] . وهذا الاسم معلوم عند غالبية
أمم الأرض باللفظ نفسه ، كما يذكر العقاد في كتابه ( إبليس ) ، وإنما سمي طاغوتاً
لتجاوزه حده ، وتمرده على ربه ، وتنصيبه نفسه إلهاً يعبد .
وقد يئس هذا المخلوق من رحمة الله ، ولذا أسماه الله ( إبليس ) . والَبَلَس في لغة
العرب : من لا خير عنده ، وأبلس : يئس وتحيّر .
والذي يطالع ما جاء في القرآن والحديث عن الشيطان يعلم أنه مخلوق يعقل ويدرك
ويتحرك و .... ، وليس كما يقول بعض الذين لا يعلمون : " إنه روح الشّر متمثلة
في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه – إذا تمكنت من قلبه – عن المثل الروحية
العليا " (1) .
المطلب الثاني
أصل الشيطان
سبق القول أن الشيطان من الجن ، وقد نازع في هذه المسألة بعض المتقدمين والمتأخرين
، وحجتهم في ذلك قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس
أبى واستكبر وكان من الكافرين ) [ البقرة : 34 ] . وهذه الآية وأمثالها يستثني
الله فيها إبليس من الملائكة ، والمستثنى لا يكون إلا من جنس المستثنى منه عادة .
وقد نقلت لنا كتب التفسير والتاريخ أقوال عدد من العلماء ، يذكرون أن إبليس كان من
الملائكة ، وأنه كان خازناً للجنة ، أو للسماء الدنيا ، وأنه كان من أشرف الملائكة
، وأكرمهم قبيلة .... إلى آخر تلك الأقوال .
قال ابن كثير : " وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف ، وغالبها من
الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها ، والله أعلم بحال كثير منها ، ومنها ما يقطع
بكذبه ؛ لمخالفته للحقّ الذي بأيدينا .
(9)
وفي
القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة ؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل
وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة ، وليس لهم من الحفّاظ المتقنين الذين
ينفون عنها تحريف الغالبين ، وانتحال المبطلين ، كما لهذه الأمة من الأئمة ،
والعلماء ، والسادة ، والأتقياء ، والبررة ، والنجباء من الجهابذة النقاد ،
والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث ، وحرروا وبينوا صحيحه ، من حسنه ، من ضعيفه ،
من منكره ، وموضوعه ، ومتروكه ، ومكذوبه ، وعرفوا الوضاعين ، والكذابين ،
والمجهولين ، وغير ذلك من أصناف الرجال . كل ذلك صيانة للجناب النبوي ، والمقام
المحمدي خاتم الرسل ، وسيد البشر – صلى الله عليه وسلم – أن ينسب إليه كذب ، أو
يحدث عنه بما ليس فيه " (2) .
وما احتجوا به من أن الله استثنى إبليس من الملائكة ... ليس دليلاً قاطعاً ،
لاحتمال أن يكون الاستثناء منقطعاً ، بل هو كذلك حقا ، للنصّ على أنّه من الجن في
قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس كان من الجن
ففسق عن أمر ربه ...) [ الكهف : 50 ] .
وقد ثبت لدينا بالنص الصحيح أن الجن غير الملائكة والإنس ، فقد أخبر المصطفى صلى
الله عليه وسلم : ( أن الملائكة خلقوا من نور ، وأن الجن خلقوا من مارج من نار ،
وأن آدم خلق من طين ) . والحديث في صحيح مسلم .
قال الحسن البصري : " لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين " (3) . والذي
حققه ابن تيمية : " أن الشيطان كان من الملائكة باعتبار صورته ، وليس منهم
باعتبار أصله ، ولا باعتبار مثاله " (4) .
هل الشيطان أصل الجن أم واحد منهم ؟
ليس لدينا نصوص صريحة تدلنا على أن الشيطان أصل الجن ، أو واحد منهم ، وإن كان هذا
الأخير أظهر لقوله : ( إلاَّ إبليس كان من الجن ) [ الكهف : 50 ] .
وابن تيمية رحمه الله يذهب إلى أن الشيطان أصل الجن ، كما أنّ آدم أصل الإنس (5) .
المطلب الثالث
قبح صورة الشيطان
(10)
الشيطان
قبيح الصورة ، وهذا مستقر في الأذهان ، وقد شبه الله ثمار شجرة الزقوم التي تنبت
في أصل الجحيم برؤوس الشياطين ، لما علم من قبح صورهم وأشكالهم ( إنَّها شجرةٌ
تخرج في أصل الجحيم – طلعها كأنَّه رُؤُوسُ الشَّياطين ) [ الصافات :64-65] .
وقد كان النصارى في القرون الوسطى يصورون الشيطان على هيئة رجل أسود ذي لحية مدببة
، وحواجب مرفوعة ، وفم ينفث لهباً ، وقرون وأظلاف وذيل (6) .
المطلب الرابع
الشيطان له قرنان
في صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تَحَرّوا بصلاتكم
طلوع الشمس ، ولا غروبها ، فإنّها تطلع بقرني شيطان ) (7) .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا طلع حاجب الشمس فأخروا
الصلاة حتى تبرز الشمس ، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب ، ولا
تَحَيُّنوا بصلاتكم طلوع الشمس ، ولا غروبها ، فإنّها تطلع بين قرني شيطان ) (8) .
والمعنى أن طوائف المشركين كانوا يعبدون الشمس ، ويسجدون لها عند طلوعها ، وعند
غروبها ، فعند ذلك ينتصب الشيطان في الجهة التي تكون فيها الشمس ، حتى تكون
عبادتهم له .
وقد جاء هذا مصرحاً به في صحي مسلم ، فقد سأل عمرو بن عبسة السلمي الرسول عن
الصلاة . فقال صلى الله عليه وسلم : ( صل صلاة الصبح ، ثم أقصر الصلاة حتى تطلع
الشمس ، حتى ترتفع ، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذٍ يسجد لها
الكفار ، ثمّ صلَّ ، فإن الصلاة مشهودة محضورة ) .
ثم نهاه عن الصلاة بعد العصر ( حتى تغرب الشمس ، فإنها تغرب بين قرني شيطان ،
وحينئذٍ يسجد لها الكفار ) (9) .
وقد نهينا عن الصلاة في هذين الوقتين ، والصحيح أن الصلاة في هذين الوقتين جائزة ،
إذا كان لها سبب كتحية المسجد ، ولا تجوز بلا سبب كالنفل المطلق ؛ لقوله صلى الله
عليه وسلم : ( لا تَحَيّنوا ) ؛ أي لا تتقصدوا .
(11)
ومما ورد
فيه ذكر قرن الشيطان حديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق ، فقال : ( ها إنَّ الفتنة هاهنا ، إن الفتنة
هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان ) (10) . والمراد بقوله : ( حين يطلع الشيطان ) ؛
أي جهة الشرق .
--------------------------------
(1) دائرة المعارف الحديثة : ص357 .
(2) تفسير ابن كثير : 4/397 .
(3) البداية والنهاية : 1/79 .
(4) مجموع الفتاوى : 4/346 .
(5) راجع مجموع الفتاوى : 4/235 ، 346 .
(6) دائرة المعارف الحديثة : 357 .
(7) صحيح مسلم : 1/567 . ورقمه : 828 .
(8) رواه البخاري : 6/335 . ورقمه : 3272 ، 3273 . ورواه مسلم إلى قوله : (حتى
تغيب) : 1/568 .ورقمه : 829 .
(9) رواه مسلم : 1/569 ، ورقمه : 832 .
(10) رواه البخاري : 6/336 . ورقمه : 3279 .
طعام الجن وشرابهم ونكاحهم
المطلب الأول
طعامهم وشرابهم
الجن – والشيطان منهم – يأكلون ويشربون ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي
الله عنه – أن النبي – صل الله عليه وسلم – أمره أن يأتيه بأحجار يستجمر بها وقال
له : ( ولا تأتيني بعظم ولا روثة ) ، ولما سأل أبو هريرة الرسول – صلى الله عليه
وسلم – بعد ذلك عن سرّ نهيه عن العظم والروثة ، قال : ( هما من طعام الجن ، وإنّه
أتاني وفد جن نصيبين – ونعم الجن – فسألوني الزاد ، فدعوت الله لهم : أن لا يمروا
بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعماً ) (1) .
وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( لا تستنجوا بالروث ، ولا بالعظام ، فإنّه زاد إخوانكم من الجن ) (2)
.
(12)
وفي صحيح
مسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتاني داعي الجن ،
فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن ) ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم
، وسألوه الزاد فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم ، أوفر ما
يكون لحماً ، وكل بعرة علفٌ لدوابكم ) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم ) (3) .
وكون الروث طعاماً للجن أو لدوابهم ليس العلة الوحيدة للنهي عن الاستنجاء بالروث ،
فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم علة أخرى ، فقد صرح بأن الروث رجس (4) .
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الشيطان يأكل بشماله ، وأمرنا بمخالفته
في ذلك ، روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنّ النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( إذا أكل فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه ، فإن الشيطان يأكل
بشماله ، ويشرب بشماله ) (5) .
وفي صحيح مسلم : ( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ، قال
الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان
: أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء )
(6) . ففي هذه النصوص دلالة قاطعة على أن الشياطين تأكل وتشرب .
وكما أن الإنس منهيون عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من اللحوم ، فكذلك الجن
المؤمنون جعل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم طعاماً كل عظم ذكر اسم الله عليه ،
فلم يبح لهم متروك التسمية ، ويبقى متروك التسمية لشياطين كفرة الجن ، فإن
الشياطين يستحلون الطعام إذا لم يذكر عليه اسم الله ، ولأجل ذلك ذهب بعض العلماء
إلى أن الميتة طعام الشياطين ؛ لأنه لم يذكر اسم الله عليها .
(13)
واستنتج
ابن القيم من قوله تعالى : ( إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل
الشَّيطان ) [ المائدة : 90 ] أن المسكر شراب الشيطان ، فهو يشرب من الشراب الذي
عمله أولياؤه بأمره ، وشاركهم في عمله ، فيشاركهم في شربه ، وإثمه وعقوبته .
ويدل على صحة استنتاج ابن القيم ما رواه النسائي عن عبد الله بن يزيد قال : كتب
إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أما بعد : فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه
نصيب الشيطان ؛ فإن له اثنين ، ولكم واحد " (7) .
المطلب الثاني
تزاوج الجن وتكاثرهم
الذي يظهر أن الجن يقع منهم النكاح ، وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله تعالى
في أزواج أهل الجنة : ( لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ ) [ الرحمن : 56 ]
. والطمث في لغة العرب : الجماع ، وقيل هو الجماع الذي يكون معه تدمية تنتج عن
الجماع .
وذكر السفاريني حديثاً يحتاج إلى نظر في إسناده ، يقول : ( إن الجن يتوالدون ، كما
يتوالد بنو آدم ، وهم أكثر عدداً ) (8) .
وسواء أصح هذا الحديث أم لم يصح ، فإن الآية صريحة في أن الجن يتأتى منهم الطمث ،
وحسبنا هذا دليلاً .
وأخبرنا ربنا أن الشيطان له ذرية ، قال تعالى مبكتاً عباده الذين يتولون الشيطان
وذريته : ( أفتتخذونه وذريَّته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) [ الكهف : 50 ] ،
وقال قتادة : " أولاد الشيطان يتوالدون كما يتوالد بنو آدم ، وهم أكثر عدداً
" (9) .
المطلب الثالث
دعوى بعض أهل العلم أن الجن لا يأكلون
ولا يشربون ولا يتناكحون
وقد زعم قوم أن الجن لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يتناكحون ، وهذا القول تبطله
الأدلة التي سقناها من الكتاب والسنة .
(14)
وذكر بعض
العلماء أن الجن أنواع : منهم من يأكل ويشرب ، ومنهم من ليس كذلك ؛ يقول وهب بن
منبه : " الجنّ أجناس ، فأمّا خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ، ولا يشربون ،
ولا يموتون ، ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ، ويشربون ، ويتوالدون ،
ويتناكحون ، ويموتون ، قال : وهي هذه السعالي والغول وأشباه ذلك " . أخرجه
ابن جرير (10) .
وهذا الذي ذكره وهب يحتاج إلى دليل ، ولا دليل .
وقد حاول بعض العلماء الخوض في الكيفية التي يأكلون بها ، هل هو مضغ وبلع ، أو تشمم
واسترواح ، والبحث في ذلك خطأ لا يجوز ؛ لأنّه لا علم لنا بالكيفية ، ولم يخبرنا
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها .
المطلب الرابع
زواج الإنس من الجن (11)
لا زلنا نسمع أن فلاناً من الناس تزوج جنية ، أو أن امرأة من الإنس خطبها جني ،
وقد ذكر السيوطي آثاراً وأخباراً عن السلف والعلماء تدل على وقوع التناكح بين
الإنس والجن (12) . يقول ابن تيمية (13) : " وقد يتناكح الإنس والجن ويولد
بينهما ولد ، وهذا كثير معروف " .
وعلى فرض إمكان وقوعه فقد كرهه جمع من العلماء كالحسن وقتادة والحكم وإسحاق .
والإمام مالك – رحمه الله – لا يجد دليلاً ينهى عن مناكحة الجن ، غير أنّه لم
يستحبه ، وعلل ذلك بقوله : " ولكني أكره إذا وجدت امرأة حاملاً فقيل من زوجك
؟ قالت : من الجن ، فيكثر الفساد " (14) .
وذهب قوم إلى المنع من ذلك ، واستدلوا على مذهبهم بأنّ الله امتنّ على عباده من
الإنس بأنّه جعل لهم أزواجاً من جنسهم : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً
لتسكنوا إليها وجعل بينكم مَّوَدَّةً ورحمة ً ) [ الروم : 21 ] .
فلو وقع فلا يمكن أن يحدث التآلف والانسجام بين الزوجين لاختلاف الجنس ، فتصبح
الحكمة من الزواج لاغية ؛ إذ لا يتحقق السكن والمودة المشار إليهما في الآية
الكريمة .
(15)
وعلى
كلٍّ فهذه مسألة يزعم بعض الناس وقوعها في الحاضر والماضي ، فإذا حدثت فهي شذوذ ،
قلما يسأل فاعلها عن حكم الشرع فيها ، وقد يكون فاعلها مغلوباً على أمره لا يمكنه
أن يتخلص من ذلك .
ومما يدل على إمكان وقوع التناكح بين الإنس والجن قوله تعالى في حور الجنة : ( لم
يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ ) [ الرحمن : 56 ] ، فدلت الآية على صلاحيتهن
للإنس والجن على حد سواء .
--------------------------------
(1) رواه البخاري : 7/171 . ورقمه : 3860 . والطعم : الطعام . قال ابن حجر ( فتح
الباري : 7/73 ) : " في رواية السرخسي : ( إلا وجدوا عليها طعاماً ) .
(2) صحيح سنن الترمذي : 1/8 . ورقمه : 17 .
(3) رواه مسلم : 1/332 . ورقمه : 450 . صحيح سنن الترمذي : 3/104 . ورقمه :2595 .
إذا كنّا نهينا عن إفساد طعام الجن فيحرم علينا من باب أولى إفساد طعام الإنس .
(4) هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه : 1/256 . ورقمه : 156 .
(5) رواه مسلم : 3/1598 . ورقمه : 2020 .
(6) صحيح مسلم : 3/1598 . ورقمه : 2018 .
(7) صحيح سنن النسائي : 3/1154 . ورقمه : 5275 .
(8) رواه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في : العظمة ، عن قتادة .
(9) لقط المرجان : ص51 .
(10) لوامع الأنوار : 2/222 .
(11) إن شئت التوسع في هذه المسألة فارجع إلى آكام المرجان : ص66 .
(12) لقط المرجان : ص53 .
(13) مجموع الفتاوى : 19/39 .
(14) آكام المرجان : ص67 .
أعمار الجن وموتهم
لا شك أن الجن – ومنهم الشياطين – يموتون ؛ إذ هم داخلون في قوله تعالى : ( كلٌّ
من عليها فانٍ – ويبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام – فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان
) [ الرحمن : 26-28 ] .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( أعوذ
بعزتك ، الذي لا إله إلا أنت ، الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ) (1) .
(16)
أما
مقدار أعمارهم فلا نعلمها ، إلا ما أخبرنا الله عن إبليس اللعين ، أنه سيبقى حيّاً
إلى أن تقوم الساعة : ( قال أنظرني إلى يوم يبعثون – قال إنَّك من المنظرين ) [
الأعراف : 14-15 ] .
أما غيره فلا ندري مقدار أعمارهم ، إلا أنهم أطول أعماراً من الإنس .
ومما يدّل على أنهم يموتون أن خالد بن الوليد قتل شيطانة العزى ، ( الشجرة التي
كانت تعبدها العرب ) ، وأن صحابياً قتل الجني الذي تمثل بأفعى ، كما سيأتي بيانه .
--------------------------------
(1) رواه مسلم في صحيحه : 4/1906 . ورقمه : 2451 .
مساكن الجن ومجالسهم وأماكنهم
الجن يسكنون هذه الأرض التي نعيش فوقها ، ويكثر تجمعهم في الخراب والفلوات ،
ومواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والمقابر ، ولذلك – كما يقول ابن
تيمية – يأوي إلى كثير من هذه الأماكن ، التي هي مأوى الشياطين : الشيوخ الذين
تقترن بهم الشياطين . وقد جاءت الأحاديث ناهية عن الصلاة في الحمام ؛ لأجل ما فيها
من نجاسة ، ولأنها مأوى الشياطين ، وفي المقبرة ؛ لأنها ذريعة إلى الشرك .
ويكثر تجمعهم في الأماكن التي يستطيعون أن يفسدوا فيها كالأسواق ، فقد أوصى سلمان أصحابه
قائلاً : " لا تكونن ، إن استطعت ، أول من يدخل السوق ، ولا آخر من يخرج منها
، فإنها معركة الشياطين ، وبها ينصب رايته " (1) .
والشياطين تبيت في البيوت التي يسكنها الناس ، وتطردها التسمية ، وذكر الله ،
وقراءة القرآن ، خاصة سورة البقرة ، وآية الكرسي منها ، وأخبر الرسول صلى الله
عليه وسلم أن الشياطين تنتشر ، وتكثر بحلول الظلام ،ولذا أمرنا أن نكف صبياننا في
هذه الفترة ، وهو حديث متفق عليه .
والشياطين تهرب من الأذان ، وفي رمضان تُصَفّد الشياطين .
والشياطين تحب الجلوس بين الظل والشمس ؛ ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن
الجلوس بينهما ، وهو حديث صحيح مروي في السنن وغيرها .
--------------------------------
(17)
(1) رواه
مسلم في صحيحه : 4/1906 . ورقمه : 2451 .
دواب الجن ومراكبهم
في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم : أنَّ الجن سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم الزاد
، فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً ،
وكل بعرة علف لدوابكم ) (1) .
فأخبر أن لهم دوابّ ، وأن علف دوابهم بعر دواب الإنس .
وأخبرنا ربنا أن للشيطان خيلاً يجلب بها على أعدائه من بني آدم قال تعالى : (
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) [الإسراء : 64] .
حيوانات تصاحبها الشياطين :
من هذه الحيوانات الإبل ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الإبل خلقت من
الشياطين ، وإن وراء كل بعير شيطاناً ) . رواه سعيد بن منصور في سننه بإسنادٍ مرسل
حسن (2) . ومن أجل ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل ،
فعن البراء بن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصلوا في مبارك الإبل
، فإنها من الشياطين ، وصلوا في مرابض الغنم ، فإنها بركة ) (3) .
وعن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا في مرابض
الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل ، فإنها خلقت من الشياطين ) (4) .
وهذه الأحاديث ترد على من قال : إنّ علة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل نجاسة
أبوالها وروثها ، فالصحيح أن روث وبول ما يؤكل لحمه غير نجس .
وقد تساءَل أبو الوفاء ابن عقيل عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن
الكلب الأسود شيطان ) ، ومعلوم أنه مولود من كلب ، و ( أن الإبل خلقت من الشياطين
) مع كونها مولودة من الإبل .
وأجاب : أنّ هذا على طريق التشبيه لها بالشياطين ، لأن الكلب الأسود أشرّ الكلاب
وأقلعها نفعاً ، والإبل تشبه الجن في صعوبتها وصولتها ، كما يقال : فلان شيطان ؛
إذا كان صعباً شريراً (5) .
(18)
ويدل
لصحة قول ابن عقيل أن الأحياء في عالمنا الأرضي مخلوقة من الماء ، كما قال تعالى :
( وجعلنا من الماء كُلَّ شيٍ حَيٍّ ) [ الأنبياء : 30 ] ، والشياطين مخلوقة من النار
.
--------------------------------
(1) رواه مسلم : 3/332 . ورقمه : 450 .
(2) صحيح الجامع : 2/52 .
(3) رواه أبو داود . انظر صحيح سنن أبي داود : 1/37 . ورقمه : 169 .
(4) صحيح سنن ابن ماجة : 1/128 . ورقمه : 623 .
(5) آكام المرجان : ص22 . لقط المرجان : ص42 .
قدرات الجن وعجزهم
المطلب الأول
ما أعطاه الله للجن من قدرات
أعطى الله الجنّ قدرة لم يعطها للبشر ، وقد حدثنا الله عن بعض قدراتهم ، فمن ذلك :
أولاً : سرعة الحركة والانتقال :
فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في
مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوسه ، فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به
قبل أن يرتد إليك طرفك : ( قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك
وَإِنِّي عليه لقويٌّ أمينٌ – قال الَّذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن
يرتد إليك طرفك فلمَّا رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي ...) [ النمل : 39-40
] .
ثانياً : سبقهم الإنسان في مجالات الفضاء :
ومنذ القدم كانوا يصعدون إلى أماكن متقدمة في السماء ، فيسترقون أخبار السماء ،
ليعلموا بالحَدَث قبل أن يكون ، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم زيدت الحراسة
في السماء : ( وأنَّا لمسنا السَّماء فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشهباً –
وأنَّا كنَّا نقعد منها مقاعد للسَّمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَّصداً ) [
الجن : 8-9 ] .
(19)
وقد وضح
الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية استراقهم السمع ، فعن أبي هريرة يبلغ به النبي
صلى الله عليه وسلم : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها
خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال
ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير .
فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه ،
فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى
من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن
يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة . فيقال : أليس قد قال
لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء ) (1) .
خرافة جاهلية :
ومعرفة السبب الذي من أجله يرمي بشهب السماء قضى على خرافة كان يتناقلها أهل
الجاهلية ، فعن عبد الله بن عباس قال : أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
من الأنصار : أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم
فاستنار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماذا كنتم تقولون في
الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ) ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم ، كنا نقول : ولد الليلة رجل عظيم ، ومات رجل عظيم ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ؛
ولكنّ ربنا – تبارك وتعالى اسمه – إذا قضى أمراً سبّح حملة العرش ، ثم سبح أهل
السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ، ثمّ قال الذين
يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ماذا قال ، قال فيستخبر
بعض أهل السماوات بعضاً ؛ حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجنّ السمع ،
فيقذفون إلى أوليائهم ، ويرمون به ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم
يَقْرِفون فيه ويزيدون ) (2) .
(20)
وقد يكون
استراقهم السمع بطريق أهون عليهم من الطريق الأولى ، وذلك بأن تستمع الشياطين إلى
الملائكة الذين يهبطون إلى العنان بما يكون من أحداث قدرها الله ، فعن عائشة رضي
الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الملائكة تتحدث في العنان –
والعنان الغمام – بالأمر يكون في الأرض ، فتستمع الشياطين الكلمة ، فتقرها في أذن
الكاهن كما تقرّ القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة ) (3) .
ثالثاً : علمهم بالإعمار والتصنيع :
أخبرنا الله أنه سخر لنبيّه سليمان ، فكانوا يقومون له بأعمال كثيرة تحتاج إلى
قدرات ، وذكاء ، ومهارات : ( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن
أمرنا نذقه من عذاب السَّعير – يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ
كالجواب وقدورٍ رَّاسِيَاتٍ) [ سبأ : 12-13 ] .
ولعلهم قد توصلوا منذ القدم إلى اكتشاف مثل ( الراديو والتلفزيون ) ، فقد ذكر ابن
تيمية أن بعض الشيوخ الذين كان لهم اتصال بالجن أخبره وقال له : " إن الجن
يرونه شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج ، ويمثلون له فيه ما يطلب منه من الأخبار به
، قال فأخبر الناس به ، ويوصلون إليّ كلام من استغاث بي من أصحابي ، فأجيبه ،
فيوصلون جوابي إليه " (4) .
رابعاً : قدرتهم على التشكل :
للجن قدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان ، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر
في صورة سراقة بن مالك ، ووعد المشركين بالنصر ، وفيه أنزل : ( وإذ زيَّن لهم
الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم )
[الأنفال : 48] .
ولكن عندما التقى الجيشان ، وعاين الملائكة تتنزل من السماء ، ولى هارباً : (
فلمَّا تَرَاءتِ الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريءٌ منكم إِنِّي أرى ما لا ترون
إني أخاف الله ) [ الأنفال : 48 ] .
(21)
وقد جرى
مع أبي هريرة قصة طريفة رواها البخاري وغيره ؛ قال أبو هريرة : ( وكلني رسول الله
بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، وقلت : والله لأرفعنك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج ، وعليّ عيال ، ولي حاجة
شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة
، ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ )
قال : قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله ، قال :
( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إنه سيعود ، فرصدته ، فجاءَ يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : دعني فإني محتاج ، وعليّ عيال ، لا أعود ، فرحمته
، فخليت سبيله ، فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا هريرة
، ما فعل أسيرك ؟ ) قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً ، فرحمته ، فخليت
سبيله .
قال : ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فرصدته الثالثة ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ،
فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات ، إنك تزعم
لا تعود ، ثمّ تعود ! قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قال : قلت : ما هنّ
؟
(22)
قال :
إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم )
[البقرة : 255] حتى تختم الآية ؛ فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنّك
شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل
أسيرك البارحة ؟ ) قلت : يا رسول الله زعم أنّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ،
فخليت سبيله ، قال : ما هي ؟ قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي
من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [ البقرة : 255
] وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص
شيء على الخير .
قال النبي : ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا
هريرة ؟ ) قال : لا ، قال : ( ذاك شيطان ) (5) .
فقد تشكل هذا الشيطان في صورة إنسان .
وقد يتشكل في صورة حيوان : جمل ، أو حمار ، أو بقرة ، أو كلب ، أو قط ، وأكثر ما
تتشكل بالأسود من الكلاب والقطط . وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مرور
الكلب الأسود يقطع الصلاة ، وعلل ذلك بأن ( الكلب الأسود شيطان ) (6) . يقول ابن
تيمية : " الكلب الأسود شيطان الكلاب ، والجن تتصور بصورته كثيراً ، وكذلك
بصورة القط الأسود ؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره ، وفيه قوة الحرارة
" .
جنان البيوت :
تتشكل الجان بشكل الحيات وتظهر للناس ، ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل
الحيات البيوت ، خشية أن يكون هذا المقتول جنياً قد أسلم ، ففي صحيح مسلم عن أبي
سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ بالمدينة جنّاً قد
أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه
، فإنما هو شيطان ) (7) .
(23)
وقد قتل
أحد الصحابة حيّة من حيات البيوت ، فكان في ذلك هلاكه ، روى مسلم في صحيحه : أن
أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، فوجده يصلي ، قال : ( فجلست أنتظره
حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكاً في عراجين في ناحية البيت ، فالتفت ، فإذا حيّة ،
فوثبت لأقتلها فأشار إليّ ؛ أن اجلس ، فجلست .
فما انصرف أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم . قال :
كان فيه فتى منّا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق ، فكان
ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ، فيرجع إلى أهله ،
فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خذ عليك سلاحك ، فإني
أخشى عليك قريظة ) .
فأخذ الرجل سلاحه ، ثمّ رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح
ليطعنها به ، وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي
أخرجني .
فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم
خرج ، فركزه في الدار ، فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتاً : الحية أم
الفتى !
قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله
يحييه لنا فقال : ( استغفروا لصاحبكم ) ، ثم قال : ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا
، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ،
فإنّما هو شيطان ) (8) .
تنبيهات مهمة حول قتل حيات البيوت :
1- هذا الحكم ، وهو النهي عن قتل الحيوانات خاص بالحيات دون غيرها .
2- وليس كل الحيات ؛ بل الحيات التي نراها في البيوت دون غيرها ، أمّا التي
نشاهدها خارج البيوت فنحن مأمورون بقتلها .
3- إذا رأينا حيات البيوت فنؤذنها ؛ أي نأمرها بالخروج ، كأن نقول : أقسم عليك
بالله أن تخرجي من هذا المنزل ، وأن تبعدي عنّا شرّك وإلا قتلناك . فإن رؤيت بعد
ثلاثة أيام قتلت .
(24)
4-
والسبب في قتلها بعد ثلاثة أيام أننا تأكدنا أنها ليست جنّاً مسلماً ، لأنها لو
كانت كذلك ، لغادرت المنزل ، فإن كانت أفعى حقيقية فهي تستحق القتل ، وإن كانت
جنّاً كافراً متمرداً فهو يستحق القتل ؛ لأذاه وإخافته لأهل المنزل .
5- يستثنى من جنان البيوت نوع يقتل بدون استئذان ، ففي صحيح البخاري عن أبي لبابة
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقتلوا الجِنَّان ، إلا كلّ أبتر ذي
طُفْيَتَيْن ؛ فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر ، فاقتلوه ) (9) .
وهل كل الحيات من الجنّ أم بعضها ؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الحيّات
مسخ الجنّ صورة ، كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل ) (10) .
خامساً : الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق :
في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن
الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) (11) ، وفي الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج
النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً
، فأتيته أزوره ليلاً ، فحدثته ، ثمّ قمت فانقلبت ، فقام معي ليقبلني ( يردني )
وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمرّ رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى
الله عليه وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على رسلكما ، إنها صفية
بنت حيي ) ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله !! قال : ( إن الشيطان يجري من
الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً ) ، أو قال : ( شيئاً )
(12) .
--------------------------------
(1) رواه البخاري في صحيحه : 8/538 . ورقمه : 4800 .
(2) رواه مسلم : 4/1750 . ورقمه : 2229 . ومعنى يقرفون فيه أي الصدق بالكذب :
يقذفون .
(3) رواه البخاري : 6/338 .ورقمه : 3288 .
(4) مجموع الفتاوى : 11/309 .
(25)
(5) صحيح
البخاري : 4/486 . ورقمه : 2311 . ويرى بعض العلماء أن الحديث منقطع ؛ لأنه لم
يصرح بالسماع من شيخه عثمان بن الهيثم ، والحديث وصله النسائي وغيره . انظر : فتح
الباري : 4/488 .
(6) رواه مسلم : 1/365 . ورقمه : 510 .
(7) رواه مسلم : 4/1756 . ورقمه : 2236 .
(8) رواه مسلم : 4/1756 . ورقمه : 2236 .
(9) رواه البخاري : 6/351 . ورقمه : 3311 .
(10) رواه الطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، بإسناد صحيح ، راجع الأحاديث الصحيحة
: 104 .
(11) صحيح البخاري : 13/159 . ورقمه : 7171 . ورواه مسلم : 4/1712 . ورقمه : 2175
.
(12) رواه البخاري : 6/336 . ورقمه : 3281 .
المطلب الثاني
جوانب ضعف الجن وعجزهم
الجن والشياطين كالإنس فيهم جوانب قوة ، وجوانب ضعف ، قال تعالى : ( إنَّ كيد
الشَّيطان كان ضعيفاً ) [ النساء : 76 ] ، وسنعرض لبعض هذه الجوانب التي عرفنا
الله ورسوله بها .
أولاً : لا سلطان لهم على عباد الله الصالحين :
لم يعط الرَّب – سبحانه – الشيطان القدرة على إجبار الناس ، وإكراههم على الضلال
والكفر : ( إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربك وكيلاً ) [ الإسراء : 65 ] .
( وما كان له عليهم من سلطانٍ إلاَّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممَّن هو منها في شكٍ )
[ سبأ : 21 ] .
ومعنى ذلك أن الشيطان ليس له طريق يتسلط بها عليهم ، لا من جهة الحجة ، ولا من جهة
القدرة ، والشيطان يدرك هذه الحقيقة : ( قال رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض
ولأغوينَّهم أجمعين – إلاَّ عبادك منهم المخلصين ) [ الحجر : 39-40 ] .
وإنما يتسلط على العباد الذين يرضون بفكره ، ويتابعونه عن رضا وطواعية : ( إنَّ
عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاَّ من اتبَّعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] . وفي يوم
القيامة يقول الشيطان لأتباعه الذين أضلهم وأهلكهم : ( وما كان لي عليكم من سلطانٍ
إلاَّ أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] .
(26)
وفي آية
أخرى : ( إنَّما سلطانه على الَّذين يتولَّونه والَّذين هم به مشركون ) [النحل
:100] .
والسلطان الذي أعطيه الشيطان هو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال ، وتمكنه منهم ،
بحيث يؤزهم على الكفر والشرك ويزعجهم إليه ، ولا يدعهم يتركونه ، كما قال تعالى :
( ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين تؤزُّهم أزاً ) [ مريم : 83 ] ،
ومعنى تؤزهم : تحركهم وتهيجهم .
وسلطان الشيطان على أوليائه ليس لهم فيه حجّة وبرهان ، وإنما استجابوا له بمجرد
دعوته إياهم ، لما وافقت أهواءَهم وأغراضهم ، فهم الذين أعانوا على أنفسهم ،
ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته ، فلما أعطوا بأيديهم ، واستأسروا
له ، سُلّط عليهم عقوبةً لهم . فالله لا يجعل للشيطان على العبد سلطاناً ، حتى
يجعل له العبد سبيلاً بطاعته والشرك به ، فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطاً وقهراً
.
تسليطه على المؤمنين بسبب ذنوبهم :
ففي الحديث : ( إن الله – تعالى – مع القاضي لم يَجُر ، فإذا جار تبرأ منه ،
وألزمه الشيطان ) . رواه الحاكم ، والبيهقي بإسناد حسن (1) .
ويروي لنا أبو الفرج ابن الجوزي – رحمه الله – عن الحسن البصري – رحمه الله – قصة
طريفة ، وبغض النظر عن مدى صحتها فهي تصور قدرة الإنسان على قهر الشيطان إذا أخلصه
دينه لله ، وكيف يصرع الشيطان الإنسان إذا ضلّ وزاغ .
يقول الحسن : كانت شجرة تعبد من دون الله ، فجاء إليها رجل ، فقال : لأقطعن هذه
الشجرة ، فجاء ليقطعها غضباً لله ، فلقيه إبليس في صورة إنسان ، فقال : ما تريد ؟
قال : أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله ، قال : إذا أنت لم تعبدها
فما يضرك من عبدها ؟ قال : لأقطعنها .
(27)
فقال له
الشيطان : هل لك فيما هو خير لك ؟ لا تقطعها ، ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند
وسادتك . قال : فمن أين لي ذلك ؟ قال : أنا لك . فرجع ، فأصبح فوجد دينارين عند
وسادته ، ثمّ أصبح بعد ذلك ، فلم يجد شيئاً . فقام غضباً ليقطعها ، فتمثل له
الشيطان في صورته ، وقال : ما تريد ؟ قال : أريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون
الله تعالى ، قال : كذبت ما لك إلى ذلك من سبيل .
فذهب ليقطعها ، فضرب به الأرض ، وخنقه حتى كاد يقتله ، قال : أتدري من أنا؟ أنا
الشيطان ، جئت أول مرة غضباً لله ، فلم يكن لي عليك سبيل ، فخدعتك بالدينارين ،
فتركتها ، فلما جئت غضباً للدينارين سلطت عليك (2) .
وقد حدثنا الله في كتابه عن شخص آتاه الله آياته ، فعلمها ، وعرفها ، ثمّ إنه ترك
ذلك كله ، فسلط الله عليه الشيطان ، فأغواه ، وأضله ، وأصبح عبرة تروى ، وقصة
تتناقل : ( واتلُ عليهم نبأ الَّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشَّيطان
فكان من الغاوين – ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الَّذين كذَّبوا
بآياتنا فاقصص القصص لعلَّهم يتفكَّرون ) [ الأعراف : 175-176 ] . وواضح أن هذا
مثل لمن عرف الحق وكفر به كاليهود الذين يعلمون أن محمداً مرسل من ربه ، ثم هم
يكفرون به .
أما هذا الذي عناه الله هنا ، فقال بعضهم : هو بلعام بن باعورا ، كان صالحاً ثم
كفر ، وقيل : هو أمية بن أبي الصلت من المتألهين في الجاهلية ، أدرك الرسول صلى
الله عليه وسلم ، ولم يؤمن به حسداً ، وكان يرجو أن يكون هو النبي المبعوث ، وليس
عندنا نص صحيح يعرفنا بالمراد من الآية على وجه التحديد .
(28)
وهذا
الصنف ( الذي يؤتى الآيات ثم يكفر ) صنف خطر ، به شَبَه من الشيطان ؛ لأنّ الشيطان
كفر بعد معرفته الحق ، ولقد تخوف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النوع على أمته ،
روى الحافظ أبو يعلى عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه ، وكان رداؤه
الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره
بالسيف ، ورماه بالشرك ) . قال : قلت : يا رسول الله : أيهما أولى بالسيف : الرامي
أم المرمي ؟ قال : ( بل الرامي ) ، قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد (3) .
ثانياً : خوف الشيطان من بعض عباد الله وهربه منهم :
إذا تمكن العبد في الإسلام ، ورسخ الإيمان في قلبه ، وكان وقّافاً عند حدود الله ،
فإنّ الشيطان يفرق منه ، ويفرّ منه ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن
الخطاب : ( إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ) (4) ، وقال فيه أيضاً : ( إني لأنظر إلى
شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر ) (5) ، وفي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب : ( والذي نفسي بيده ، ما
لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلى سلك فجاً غير فجك ) (6) .
وليس ذلك خاصاً بعمر ، فإن مَن قوي إيمانه يقهر شيطانه ، ويذله ، كما في الحديث :
( إن المؤمن لينصي شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر ) . رواه أحمد . قال ابن
كثير (7) : بعد أن ساق هذا الحديث : " ومعنى لينصي شيطانه : ليأخذ بناصيته ،
فيغلبه ، ويقهره ، كما يفعل بالعبير إذا شرد ثم غلبه " .
(29)
وقد يصل
الأمر أن يؤثر المسلم في قرينه الملازم له فيسلم ، أخرج مسلم في صحيحه عن ابن
مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا وقد وُكّل
به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ) ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : (
وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير ) (8) .
ثالثاً : تسخير الجن لنبي الله سليمان :
سخر الله لنبيه سليمان – في جملة ما سخر – الجن والشياطين ، يعملون له ما يشاء ،
ويعذب ويسجن العصاة منهم : ( فسخَّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب –
والشَّياطين كل بنَّاءٍ وغوَّاصٍ – وآخرين مقرَّنين في الأصفاد ) [ ص : 36-38 ] .
وقال في سورة سبأ : ( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا
نذقه من عذاب السَّعير – يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب
وقدورٍ رَّاسياتٍ ) [ سبأ : 12-13 ] .
وهذا التسخير على هذا النحو استجابة من الله لعبده سليمان حين دعاه وقال : ( وهب
لي مُلكاً لاَّ ينبغي لأحدٍ من بعدي ) [ ص : 35 ] . وهذه الدعوة هي التي منعت نبينا
محمداً صلى الله عليه وسلم من ربط الجني الذي جاء بشهاب من نار ، يريد أن يرميه في
وجهه ، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فسمعناه يقول : ( أعوذ بالله منك ) ثم قال : ( ألعنك بلعنة الله ثلاثاً ) ، وبسط
يده كأنه يتناول شيئاً .
فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله لقد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً ، لم
نسمعك تقوله من قبل ، ورأيناك بسطت يدك ، فقال : ( إن عدوّ الله إبليس جاء بشهاب
من نار ليجعله في وجهي ، فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ، ثم قلت : ألعنك بلعنة
الله التامة ، فلم يستأخر ثلاث مرات ، ثم اْردت أخذه ، والله لولا دعوة أخينا
سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة ) (9) .
(30)
وقد تكرر
هذا أكثر من مرة ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( إن عفريتاً من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع عليّ الصلاة ، وإن الله أمكنني
منه ، فَذَعَتُّهُ ، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد ، حتى
تصبحوا تنظرون إليه أجمعون ، ( أو كلكم ) ، ثمّ ذكرت قول أخي سليمان : ( رب اغفر
لي وهب لي مُلكاً لاَّ ينبغي لأحدٍ من بعدي ) ، فرده الله خاسئاً ) (10) . ومعنى
يفتك : الفتك : الأخذ غفلة . وقوله : ( ذعته ) ، أي : خنقته .
كذب اليهود على نبي الله سليمان :
يزعم اليهود وأتباعهم الذين يستخدمون الجن بوساطة السحر أن نبي الله سليمان كان
يستخدم الجنّ به ، وقد ذكر غير واحد من علماء السلف أنَّ سليمان لما مات كتبت الشياطين
كتب السحر والكفر ، وجعلتها تحت كرسيه ، وقالوا : كان سليمان يستخدم الجن بهذه ،
فقال بعضهم : لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان ، فأنزل الله قوله : ( ولمَّا
جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الَّذين أوتوا الكتاب كتاب
الله وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون ) [ البقرة : 101 ] ، ثم بين أنهم اتبعوا ما
كانت تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان ، وبرأ سليمان من السحر والكفر : (
واتَّبعوا ما تتلوا الشَّياطين على مُلكِ سليمان وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين
كفروا ) [ البقرة : 102 ] .
رابعاً : عجزهم عن الإتيان بالمعجزات :
لا تستطيع الجن الإتيان بمثل المعجزات التي جاءت بها الرسل تدليلاً على صدق ما
جاءت به .
فعندما زعم بعض الكفرة أن القرآن من صنع الشياطين قال تعالى : ( وما تنزَّلت به
الشَّياطين – وما ينبغي لهم وما يستطيعون – إنَّهم عن السَّمع لمعزولون ) [
الشعراء : 210-212 ] .
وتحدى الله بالقرآن الإنس والجن : ( قل لئِن اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يأتوا
بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ) [ الإسراء : 88 ] .
(31)
خامساً :
لا يتمثلون بالرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا :
والشياطين تعجز عن التمثل في صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا :
ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من
رآني فإني أنا هو ، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي ) (11) .
وفي الصحيحين عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رآني في المنام
فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ) . رواه مسلم من رواية أبي هريرة . وفي صحيح
البخاري : ( وإن الشيطان لا يتراءَى بي ) .
وفيه من رواية أبي سعيد : ( من رآني فقد رأى الحقّ ، فإن الشيطان لا يتكونني ) .
وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة : ( ولا يتمثل الشيطان بي ) .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر : ( من رآني في المنام فقد رآني ، إنه لا ينبغي
للشيطان أن يتمثل في صورتي ) . وفي رواية أخرى عن جابر : ( فإنه لا ينبغي للشيطان
أن يتشبه بي ) (12) .
والظاهر من الأحاديث أن الشيطان لا يتزيّا بصورة الرسول صلى الله عليه وسلم
الحقيقية ، ولا يمنعه هذا من التمثل في غير صورة الرسول صلى الله عليه وسلم والزعم
بأنّه رسول الله ، وهذا ما فقهه ابن سيرين رحمه الله ، فيما نقله عنه البخاري (13)
.
ولذلك فلا يجوز أن يحتج بهذا الحديث على أن كل من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في
المنام أنّه رآه حقّاً ، إلا إذا كانت صفته هي الصفة التي روتها لنا كتب الحديث .
وإلا فكثير من الناس يزعم أنّه رآه على صورة مخالفة للصورة المروية في كتب الثقات
.
سادساً : لا يستطيع الجن أن يتجاوزوا حدودهم في أجواز الفضاء :
قال تعالى : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السَّماوات
والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاَّ بسلطانٍ ) – فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان – يرسل
عليكما شواظٌ من نَّارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران ) [ الرحمن : 33-35 ] .
(32)
فمع
قدراتهم وسرعة حركتهم لهم حدود لا يستطيعون أن يتعدوها ، وإلا فإنهم هالكون .
سابعاً : لا يستطيعون فتح باب أغلق وذكر اسم الله عليه :
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( إذا كان جنح الليل – أو أمسيتم – فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ ،
فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم ، وأغلقوا الأبواب ، واذكروا اسم الله ، فإن
الشيطان لا يفتح باباًَ مغلقاً ) (14) .
وفي لفظ لمسلم عن جابر : ( غطوا الإناء ، وأوكوا السقاء ، وأغلقوا الباب ، وأطفئوا
السراج ، فإن الشيطان لا يحلّ سقاءً ، ولا يفتح باباً ، ولا يكشف إناء ) (15) .
--------------------------------
(1) انظر صحيح الجامع : 2/130 .
(2) تلبيس إبليس : 43 .
(3) انظر تفسير ابن كثير : 3/252 .
(4) صحيح سنن الترمذي : 3/206 . ورقمه : 2913 .
(5) صحيح سنن الترمذي : 3/206 . ورقمه : 2914 .
(6) رواه البخاري : 6/339 . ورقمه : 3294 .
(7) البداية والنهاية : 1/73 ، وفي رواية أخرى : ( لينضي شيطانه ) أي يهزله ويجعله
نضواً أي مهزولاً لكثرة إذلاله له وجعله أسيراً تحت قهره وتصرفه .
(8) رواه مسلم : 4/2167 . ورقمه : 2814 .
(9) رواه مسلم : 1/385 . ورقمه : 542 .
(10) رواه البخاري : 6/547 . ورقمه : 3423 . ورواه مسلم : 1/384 . ورقمه : 541 .
(11) صحيح سنن الترمذي : 2/260 . ورقمه : 1859 .
(12) انظر أحاديث عدم قدرة الشيطان على التمثل بالرسول صلى الله عليه وسلم في
البخاري : 12/383 . وأرقامها : 6993-6997 . وفي صحيح مسلم : 4/1775 . وأرقامها :
2266-2268 .
(13) صحيح البخاري : 12/383 .
(14) صحيح البخاري : 6/350 ، 10/88 . ورقمها : 3304 ، 5623 . ورواه مسلم : 3/1595
. ورقمه : 2012 .
(15) صحيح مسلم : 3/1594 . ورقمه : 2012 .
تكليف الجن
المبحث الأول
الغاية من خلقهم
(33)
خلق الله
الجن للغاية نفسها التي خلق الإنس من أجلها : ( وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ
ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] .
فالجن على ذلك مكلفون بأوامر ونواهٍ ، فمن أطاع رضي الله عنه ، وأدخله الجنة ، ومن
عصى وتمرد ، فله النار ، يدلّ على ذلك نصوص كثيرة .
ففي يوم القيامة يقول الله مخاطباً كفرة الجن والإنس موبخاً مبكتاً : ( يا معشر
الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصُّون عليكم آيَاتِي وينذرونكم لقاء يومكم هذا
قالوا شهدنا على أنفسنا وغرَّتهم الحياة الدُّنيا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا
كافرين ) [الأنعام : 130] .
ففي هذه الآيات دليل على بلوغ شرع الله الجن ، وأنه قد جاءهم من ينذرهم ويبلغهم .
والدليل على أنهم سيعذبون في النار قوله تعالى : ( قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من
قبلكم من الجن والإنس في النَّار ) [ الأعراف : 38 ] ، وقال : ( ولقد ذرأنا
لجهنَّم كثيراً من الجن والإنس ) [ الأعراف : 179 ] ، وقال : ( لأملأنَّ جهنَّم من
الجنَّة والنَّاس أجمعين ) [ السجدة : 13 ] . والدليل على أن المؤمنين من الجن
يدخلون الجنة قوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنَّتان – فَبِأَيِّ آلاء ربكما
تكذبان ) [ الرحمن : 46-47 ] .
والخطاب هنا للجن والإنس ؛ لأن الحديث في مطلع السورة معهما ، وفي الآية السابقة امتنان
من الله على مؤمني الجن بأنهم سيدخلون الجنة ، ولولا أنهم ينالون ذلك لما امتن
عليهم به .
يقول ابن مفلح في كتابه الفروع : " الجن مكلفون في الجملة إجماعاً ، يدخل
كافرهم النار إجماعاً ، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقاً لمالك والشافعي رضي الله عنهما
– لا أنهم يصيرون تراباً كالبهائم ، وإن ثواب مؤمنهم النجاة من النار ، خلافاً
لأبي حنيفة ، والليث بن سعد ومن وافقهم " .
(34)
قال :
" وظاهر الأول أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم ، خلافاً لمن قال لا يأكلون
ولا يشربون كمجاهد ، أو أنهم في ربض الجنّة ، حول الجنة كعمر بن عبد العزيز ، قال
ابن حامد في كتابه : " الجن كالإنس في التكليف والعبادات " (1) .
وقد عقد الشبلي باباً قال فيه : " باب في أن الجن مكلفون بإجماع أهل النظر
" . نقل فيه عن أبي عمر بن عبد البر : أن الجن عند الجماعة مكلفون مخاطبون
لقوله تعالى : ( فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 13 ] . وقال الرازي في
تفسيره : " أطبق الكل على أن الجن كلهم مكلفون " .
ونقل الشبلي عن القاضي عبد الجبار قوله : " لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في
أنّ الجن مكلفون ، وقد حكى عن بعض المؤلفين في المقالات أن الحشوية قالوا : إنهم
مضطرون إلى أفعالهم ، وأنهم ليسوا مكلفين " .
قال : " والدليل على أنهم مكلفون ما في القرآن من ذمّ الشياطين ولعنهم ،
والتحرز من غوائلهم وشرهم ، وذكر ما أعد الله لهم من العذاب ، وهذه الخصال لا
يفعلها الله تعالى إلا لمن خالف الأمر والنهي ، وارتكب الكبائر ، وهتك المحارم ،
مع تمكنه من أن لا يفعل ذلك ، وقدرته على فعل خلافه ، ويدل على ذلك أيضاً أنه كان
من دين النبي صلى الله عليه وسلم لعن الشياطين ، والبيان عن حالهم ، وأنهم يدعون
إلى الشر والمعاصي ، ويوسوسون بذلك . وهذا كله يدل على أنهم مكلفون ، وقوله تعالى
: ( قل أوحي إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من الجن ) [ الجن : 1 ] إلى قوله : (
فَآمَنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً ) [ الجن : 2 ] (2) .
تكليفهم بحسبهم :
يقول ابن تيمية : " الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم ، فإنهم ليسوا
مماثلين للإنس في الحدّ والحقيقة ؛ فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما
على الإنس في الحدّ ، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي ،
والتحليل والتحريم ، وهذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين " (3) .
(35)
--------------------------------
(1) لوامع الأنوار البهية : 2/222-223 .
(2) غرائب وعجائب الجن ، للشبلي : ص49 .
(3) مجموع الفتاوى : 4/233 .
كيف يعذبون بالنار وقد خلقوا من النار
يورد بعض الناس شبهة فيقولون : أنتم تقرون أن الجن خلقوا من نار ، ثمّ تقولون :
إنّ كافرهم يعذب في نار جهنم ، ومسترق السمع منهم يقذف بشهب من نار ، فكيف تؤثر
النار فيهم وقد خلقوا منها ؟
الجواب : أنّ الأصل الذي خلقوا منه النار ، أمّا بعد خلقهم فليسوا كذلك ، إذ
أصبحوا خلقاً مخالفاً للنار ، يوضح هذا أن الإنسان خلق من تراب ، ثم بعد إيجاده
أصبح مخالفاً للتراب ، ولو ضربت إنساناً بقطعة مشوية من الطين لقتلته ، ولو رميته
بالتراب لآذاه ، ولو دفنته فيه لاختنق ، فمع أنه من تراب إلا أن التراب يؤذيه ،
فكذلك الجن .
قال أبو الوفاء ابن عقيل : " أضاف الشياطين والجان إلى النار حسب ما أضاف
الإنسان إلى التراب والطين والفخار ، والمراد به في حق الإنسان أن أصله الطين ،
وليس الآدمي حقيقة ، لكنه كان طيناً ، كذلك الجان كان ناراً في الأصل " (1) .
لا نسب بين الجن ورب العزة :
هذا الذي ذكرناه من أن الجن خلق من خلق الله ، وعباد من جملة عباده ، خلقهم لطاعته
، وكلفهم بشريعته ، يقضي على الخرافات التي تنشأ عن الانحراف في التصور ، وعن ضمور
العلم وكثرة الجهل ، فمن ذلك ما شاع عند اليهود ومشركي العرب ، من أن الله – تعالى
وتقدس – خطب من سروات الجنّ وتزوج منهم ، وكان الملائكة ثمرة هذا الزواج ، وقد حكى
الله هذه الخرافة وبين بطلانها : ( وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً ولقد علمت
الجنَّة إنَّهم لمحضرون – سبحان الله عمَّا يصفون – إلاَّ عباد الله المخلصين ) [
الصافات : 158-160 ] .
(36)
قال ابن
كثير عند تفسيره هذه الآيات : " قال مجاهد : قال المشركون : الملائكة بنات
الله – تعالى عما يقولون – فقال أبو بكر – رضي الله عنه - : فمن أمهاتهنّ ؟ قالوا
: بنات سروات الجنّ . وبمثل قول مجاهد قال قتادة وابن زيد ... ، وقال العوفي عن
ابن عباس : زعم أعداء الله أنه – تبارك وتعالى – هو وإبليس أخوان ، تعالى الله عن
ذلك علواً كبيراً " (2) .
--------------------------------
(1) لقط المرجان في أحكام الجان : ص33 .
(2) تفسير ابن كثير : 4/24 .
رسل الله إلى الجن
بما أنهم مكلفون فلا بدّ أن يبلغهم الله وحيه ، ويقيم عليهم الحجة ، فكيف حصل ذلك
؟ هل لهم رسل منهم ، كما للبشر رسل منهم ، أم أن رسلهم هم رسل البشر ؟ .
إن قوله : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم ) [ الأنعام : 130 ] يدلّ
على أن الله أرسل إليهم رسلاً ، ولكنها لم تصرح بأن هؤلاء الرسل من الجن أو من
الإنس ؛ لأن قوله : ( منكم ) يحتمل الأمرين ؛ فقد يكون المراد أن رسل كل جنس منهم
، وقد يراد أن رسل الإنس والجن من مجموعهما ، فيصدق على أحدهما وهم الإنس . وقد
اختلف في ذلك على قولين :
الأول : أن للجن رسلاً منهم ، وممن قال بهذا القول الضحاك ، وقال ابن الجوزي : وهو
ظاهر الكلام ، وقال ابن حزم : " لم يبعث إلى الجن نبي من الإنس ألبتّة قبل
محمد صلى الله عليه وسلم " .
الثاني : أن رسل الجن من الإنس : قال السيوطي : " جمهور العلماء ، سلفاً
وخلفاً ، على أنه لم يكن من الجن قط رسول ولا نبي ، كذا روي عن ابن عباس ومجاهد
والكلبي وأبي عبيد " (1) .
ومما يرجح أن رسل الإنس هم رسل الجن قول الجن عند سماع القرآن : ( إنَّا سمعنا
كتاباً أنزل من بعد موسى ) [ الأحقاف : 30 ] ، ولكنه ليس نصّاً في المسألة .
وهذه المسألة لا يبنى عليها عمل ، وليس فيها نص قاطع .
--------------------------------
(1) لوامع الأنوار البهية : 2/223-224 ، وانظر لقط المرجان : 73 .
(37)
عموم
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
إلى الإنس والجن
رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجنّ والإنس ، يقول ابن تيمية (1) :
" وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين ،
وسائر طوائف المسلمين : أهل السنة والجماعة ، وغيرهم .
يدل على ذلك تحدي القرآن الجن والإنس ، ( قل لئِن اجتمعت الإنس والجنُّ على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ) [الإسراء :
88].
وقد سارع فريق من الجن إلى الإيمان عندما استمعوا القرآن : ( قل أوحي إليَّ أنَّه
استمع نفرٌ من الجن فقالوا إنَّا سمعنا قرآناً عجباً – يهدي إلى الرشد فآمنَّا به
ولن نشرك بربنا أحداً ) [ الجن : 1-2 ] .
وهؤلاء الذين استمعوا القرآن وآمنوا هم المذكورون في سورة الأحقاف : ( وإذ صرفنا
إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلمَّا حضروه قالوا أنصتوا فلمَّا قضي ولَّوا
إلى قومهم مُّنذرين – قالوا يا قومنا إنَّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً
لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيمٍ – يا قومنا أجيبوا داعي الله
وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذابٍ أليمٍ – ومن لاَّ يجب داعي الله
فليس بمعجزٍ في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلالٍ مُّبينٍ ) [ الأحقاف
: 29-32 ] . استمعوا للقرآن ، وآمنوا به ، ورجعوا دعاة يدعون قومهم إلى التوحيد والإيمان
، ويبشرونهم وينذرونهم .
(38)
وقصة
هؤلاء الذين استمعوا للرسول صلى الله عليه وسلم يرويها البخاري ومسلم عن ابن عباس
– رضي الله عنهما – قال : " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من
أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت
عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا
وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا
شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر
السماء .
فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
بنخلة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن ،
استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين
رجعوا إلى قومهم فقالوا : ( إنَّا سمعنا قرآناً عجباً – يهدي إلى الرشد فآمنَّا به
ولن نشرك بربنا أحداً ) [ الجن : 1-2 ] .
فأنزل الله على نبيه ( قل أوحي إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من الجن ) [ الجن : 1 ] ،
وإنما أوحي إليه قول الجن " (2) .
وفود الجن الذين تلقوا العلم من الرسول صلى الله عليه وسلم :
تلك كانت بداية معرفة الجنّ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، استمعوا لقراءَة
القرآن بدون علم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فآمن فريق منهم ، وانطلقوا دعاة هداة
.
ثمّ جاءَت وفود الجنّ بعد ذلك تتلقى العلم من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعطاهم
الرسول صلى الله عليه وسلم من وقته ، وعلمهم مما علمه الله ، وقرأ عليهم القرآن ،
وبلغهم خبر السماء .... وكان ذلك في مكة قبل الهجرة .
(39)
روى مسلم
في صحيحه عن عامر ، قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ، فقلتُ : هل
شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ففقدناهُ ، فالتمسناهُ في الأودية
والشعابِ ، فقلنا : استطير أو اغتيل ، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ ، فلما
أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال : فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك فطلبناك فلم
نجدك ، فبتنا بشر ليلةٍ بات بها قومٌ . فقال : ( أتاني داعي الجنّ ، فذهبتُ معه ،
فقرأتُ عليهم القرآن ) . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه
الزاد ، فقال : ( لكم كلُّ عظمٍ ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم ؛ أوفر ما يكون
لحماً . وكل بعرةٍ علفٌ لدوابّكم ) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعامُ إخوانكم )
(3) .
ومما قرأه عليهم سورة الرحمن ، قال السيوطي : " أخرج الترمذي ، وابن المنذر ،
وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها ، فسكتوا فقال : ( ما لي أراكم
سكوتاً ، لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردوداً منكم ، كنت كلما
أتيت على قوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ،
فلك الحمد ) (4) .
ولم تكن تلك الليلة هي الليلة الوحيدة ، بل تكرر لقاؤه صلى الله عليه وسلم بالجنّ
بعد ذلك ، وقد ساق ابن كثير في تفسير سورة الأحقاف – الأحاديث التي وردت بشأن
اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن ، وفي بعضها أن ابن مسعود كان قريباً من الرسول
صلى الله عليه وسلم في إحدى تلك الليالي .
(40)
وقد ورد
في بعض الروايات في صحيح البخاري : أن بعض الجن الذين أتوه كانوا من ناحية من
نواحي اليمن من مكان يسمى ( نصيبين ) ، فقد روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( أتاني وفد نصيبين – ونعم الجن – فسألوني الزاد ، فدعوت
الله لهم ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاماً ) (5) .
--------------------------------
(1) مجموع الفتاوى : 19/9 .
(2) رواه البخاري : 1/253 . ورقمه : 773 . ورواه مسلم : 1/331 ، ورقمه : (449) .
(3) رواه مسلم : 1/332 . ورقمه : 450 .
(4) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، للسيوطي : 7/690 .
(5) رواه البخاري : 7/171 . ورقمه : 3860 .
دعوتهم الإنس إلى الخير وشهادتهم للمسلم
ومراتبهم في الصلاح والفساد
وفي الأحاديث أن بعض الجن كان له دور في هداية الإنس ، ففي صحيح البخاري : أن عمر
بن الخطاب سأل رجلاً كان كاهناً في الجاهلية عن أعجب ما جاءته به جنيته . قال : (
بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت :
ألم تر الجنّ وإبْلاسها ××× ويأسها بعد إنْكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحْلاسها (1)
قال عمر : صدق ، بينما أنا نائم عند آلهتهم ، إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به
صارخ ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه ، يقول : يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح ،
يقول : لا إله إلا الله ، قال : فوثب القوم ، قلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا
، ثم نادى : يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح ، يقول : لا إله إلا الله ، فقمت ، فما
نَشِبنْا أن قيل : هذا نبي " (2) .
(41)
قال ابن
كثير في تفسير سورة الأحقاف بعد أن ساق هذا الحديث : ( هذا سياق البخاري ، وقد
رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه ، ثم قال : وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر –
رضي الله عنه – بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ، وكذلك هو صريح في رواية
ضعيفة عن عمر رضي الله عنه ، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن هو الذي أخبر بذلك
عن رؤيته وسماعه ، والله أعلم ، ثم قال : وهذا الرجل ( الكاهن) هو سواد بن قارب )
.
وسيأتي الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قرينه من الجن أسلم ،
فلا يأمره إلا بخير .
وقد قال أبو سعيد الخدري لأبي صعصعة : ( إني أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت
في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة ، فارفع صوتك بالنداء ، فإنّه لا يسمع مدى صوت
المؤذن جنّ ولا إنس ، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) ، قال أبو سعيد : سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). فقد أخبر أن الجن يشهدون يوم القيامة لمن
يسمعون صوت أذانه .
وهم في الصلاح والفساد مراتب :
فمنهم الكامل في الاستقامة والطيبة وعمل الخير ، ومنهم من هو دون ذلك ، ومنهم
البله المغفلون ، ومنهم الكفرة ، وهم الكثرة الكاثرة .
يقول الله سبحانه في حكايته عن الجن الذين استمعوا إلى القرآن : ( وأنَّا منَّا الصَّالحون
ومنَّا دون ذلك كنَّا طرائِق قدداً ) [ الجن : 11 ] ؛ أي منهم الكاملون في الصلاح
، ومنهم أقل صلاحاً ، فهم مذاهب مختلفة ، كما هو حال البشر .
ويقول الله عنهم : ( وأنَّا منَّا المسلمون ومنَّا القاسطون فمن أسلم فأولئك
تحرَّوا رشداً – وأمَّا القاسطون فكانوا لجهنَّم حطباً ) [ الجن : 14-15 ] ؛ أي :
أنّ منهم المسلمين ، والظالمين أنفسهم بالكفر ، فمن أسلم منهم ، فقد قصد الهدى
بعمله ، ومن ظلم نفسه ، فهو حطب جهنم .
--------------------------------
(42)
(1)
الإبلاس : اليأس ، والحزن ، والانكسار . والإنكاس : الضعف ، والهوان ، والقلاص :
جمع قلوص ، وهي الناقة الشابة ، والحلس : ما يوضع فوق ظهر الدابة كالسرج .
(2) صحيح البخاري : 7/177 . ورقمه : 3866 .
(3) رواه البخاري : 2/88 . ورقمه : 609 .
طبيعة الشيطان وهل يمكن أن يسلم
أعطى الله الجنّ القدرة على الإيمان والكفر ، ولذلك كان الشيطان عابداً مع
الملائكة ثم كفر .
فلما تحوّل إلى الكفر ، ورضي به ، وأصبح محباً للشرّ ، طالباً له ، يتلذذ بفعله
والدعوة إليه ، ويحرص عليه بمقتضى خبث نفسه ، وإن كان موجباً لعذابه : ( قال
فبعزَّتك لأغوينَّهم أجمعين – إلاَّ عبادك منهم المخلصين ) [ ص : 82-83 ] .
وهذا يكون في الإنسان ، فالإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه ، يشتهي ما يضره ، ويلتذ
به ، بل يعشق ذلك عشقاً يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله ، وحسبك أن تتأمل في
حال شارب الخمر وشارب الدخان ، فإنّ هذين المشروبين يقتلان شاربيهما ، ويفتكان
بهما ، ولا يستطيعان منهما خلاصاً إلا بشق الأنفس .
هل يمكن أن يسلم الشيطان ؟
الشيطان الأكبر الذي هو إبليس لا يمكن أن يسلم لخبر الله فيه أنه سيبقى على الكفر
، أما غيره فالذي يظهر لنا أن الشيطان يمكن أن يسلم ، بدليل أن شيطان الرسول صلى
الله عليه وسلم أسلم (1) ، إلا أنّ بعض العلماء يرفض ذلك ويقول : إن الشيطان لا
يكون مؤمناً ، منهم شارح الطحاوية ووجه قوله : ( فأسلم ) ؛ أي فانقاد واستسلم (2)
.
وبعض العلماء يرى أن الرواية ( فأسلمُ ) برفع الميم ، أي فأنا أسلمُ منه ، ومع أن
شارح الطحاوية يرى أنّ رواية الرفع تحريف للفظ ، إلا أن النووي في شرحه على مسلم
قال : " هما روايتان مشهورتان " وعزا إلى الخطابي أنّه رجح رواية الضم ،
وحكى عن القاضي عياض أنه اختار الفتح ، وهو اختيار النووي (3) .
(43)
وممن يرى
أن الشيطان يمكن أن يسلم ابن حبان ، قال معلقاً على الحديث : " في هذا الخبر
دليل على أن شيطان المصطفى صلى الله عليه وسلم أسلم ، حتى إنه لم يكن يأمره إلا
بخير ، إلا أنّه كان يسلم منه وإن كان كافراً " .
وما ذهب إليه شارح الطحاوية من أنّ الشيطان لا يكون إلا كافراً فيه نظر ، فإن كان
يرى أن الشيطان لا يطلق إلا على كافر الجن ، فهذا صحيح ، وإن كان يرى أن الشيطان
لا يمكن أن يتحول إلى الإسلام ، فهو بعيد جداً ، والحديث حجّة عليه ، وحسبنا أن
نعلم أن الشيطان كان مؤمناً ثمّ كفر ، وأن الشياطين مكلفون بالإيمان ، معذبون على
كفرهم ، فالإيمان والكفر حالتان تعتوران هذا المخلوق كالإنسان .
--------------------------------
(1) الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أعانه على شيطانه
فأسلم ، فلا يأمره إلا بالخير ، رواه مسلم في صحيحه : 4/2168 . ورقمه : 2814 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية : ص439 .
(3) شرح النووي على مسلم : 17/158 .
العداء بين الإنسان والشيطان
المبحث الأول
أسباب العداء وتاريخه وشدة هذا العداء
العداء بين الإنسان والشيطان عداء بعيد الجذور ، يعود تاريخه إلى اليوم الذي صور
الله فيه آدم ، قبل أن ينفخ فيه الروح ، فأخذ الشيطان يطيف به ، ففي صحيح مسلم عن
أنس : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما صوّر الله آدم في الجنة ،
تركه ما شاء الله أن يتركه ، فجعل إبليس يُطيف به ، ينظر ما هو ، فلما رآه أجوف ،
عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك ) (1) .
فلما نفخ الله في آدم الروح ، وأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكان إبليس يتعبد الله
مع ملائكة السماء ، فشمله الأمر ، ولكنه تعاظم في نفسه واستكبر ، وأبى السجود لآدم
: ( قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نَّارٍ وخلقته من طينٍ ) [ الأعراف : 12 ] .
(44)
لقد فتح
أبونا آدم عينيه ، فإذا به يجد أعظم تكريم ، يجد الملائكة ساجدين له ، ولكنّه يجد
عدواً رهيباً يتهدده وذريته بالهلاك والإضلال .
وطرد الله الشيطان من جنة الخلد بسبب استكباره ، وحصل على وعد من الله بإبقائه
حيّاً إلى يوم القيامة : ( قال أنظرني إلى يوم يبعثون – قال إنَّك من المنظرين )
[الأعراف : 14-15 ] ، وقد قطع اللعين على نفسه عهداً بإضلال بني آدم : ( قال فبما
أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم – ثُمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيديهم ومن
خلفهم وعن أيمانهم وعن شَمَآئِلِهِمْ ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 16-17 ]
.
وقوله هذا يصور مدى الجهد الذي يبذله لإضلال بني آدم ، فهو يأتيه من كل طريق ، عن
اليمين وعن الشمال ، ومن الأمام ومن الخلف ؛ أي من جميع الجهات ، قال الزمخشري في
تفسير هذه الآية : " ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في
الغالب ، وهذا مثل لوسوسته إليهم ، وتسويله لهم ما أمكنه وقدر عليه كقوله : (
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) [ الإسراء : 64 ] (2) .
تحذير الرحمن من الشياطين :
وقد أطال القرآن في تحذيرنا من الشيطان لعظم فتنته ، ومهارته في الإضلال ، ودأبه
وحرصه على ذلك : ( يا بني آدم لا يفتننَّكم الشَّيطان ) [ الأعراف : 27 ] .
وقال : ( إنَّ الشَّيطان لكم عدٌّ فاتَّخذوه عدوّاً ) [ فاطر : 6 ] ، وقال : ( ومن
يتَّخذ الشَّيطان وليّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مُّبيناً ) [ النساء : 119 ]
. وعداوة الشيطان لا تحول ولا تزول ؛ لأنه يرى أن طرده ولعنه وإخراجه من الجنة كان
بسبب أبينا آدم ، فلا بدّ أن ينتقم من آدم وذريته من بعده : ( قال أَرَأَيْتَكَ
هذا الَّذي كرَّمت عَلَيَّ لئِن أخَّرتن إلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذريَّته
إلاَّ قليلاً ) [ الإسراء : 62 ] .
(45)
وأرباب
السلوك اعتنوا بذكر النفس وعيوبها وآفاتها ، ولكنهم قصّروا في التعرف على عدوهم
اللدود .
--------------------------------
(1) رواه مسلم : 4/2016 ، ورقمه : 2611 .
(2) تفسير الكشاف : 2/71 .
أهداف الشيطان
المطلب الأول
الهدف البعيد
هناك هدف وحيد يسعى الشيطان لتحقيقه في نهاية الأمر ، هو أن يلقي الإنسان في
الجحيم ، ويحرمه من الجنّة ، ( إنَّما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السَّعير ) [
فاطر : 6 ] .
المطلب الثاني
الأهداف القريبة
ذلك هو هدف الشيطان البعيد ، أما أهدافه القريبة فإنها كثيرة منها :
1- إيقاع العباد في الشرك والكفر :
وذلك بدعوتهم إلى عبادة غير الله ، والكفر بالله وبشريعته : ( كمثل الشَّيطان إذ
قال للإنس اكْفُرْ فلمَّا قال إني بريءٌ منك ) [ الحشر : 16 ] .
وروى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم ،
فقال في خطبته : ( يا أيها الناس ، إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتهم مما علمني
يومي هذا ، كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين
، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطاناً ) (1) .
2- إيقاعهم في الذنوب والمعاصي :
فإذا لم يستطع إيقاعهم في الشرك والكفر ، فإنه لا ييأس ، ويرضى بما دون ذلك من
إيقاعهم في الذنوب والمعاصي ، وغرس العداوة والبغضاء في صفوفهم ، ففي سنن الترمذي
: ( ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبداً ، ولكن ستكون له طاعة
فيما تحتقرون من أعمالكم ، فسيرضى به ) (2) .
(46)
وفي صحيح
مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده
المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ) (3) ؛ أي بإيقاع العداوة
والبغضاء بينهم ، وإغراء بعضهم ببعض ، كما قال تعالى : ( إنَّما يريد الشَّيطان أن
يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة
فهل أنتم منتهون ) [ المائدة : 91 ] .
وهو يأمر بكل شر : ( إنَّما يأمركم بالسُّوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا
تعلمون ) [ البقرة : 169 ] .
وخلاصة الأمر : أن كل عبادة محبوبة لله بغيضة إلى الشيطان ، وكل معصية مكروهة
للرحمن محبوبة للشيطان .
3- إيقاعهم في البدعة :
وهي أحب إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي ؛ لأن ضررها في الدين ، قال سفيان الثوري
: " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ؛ لأن المعصية يتاب منها ، والبدعة لا
يتاب منها " (4) .
4- صدّه العباد عن طاعة الله :
وهو لا يكتفي بدعوة الناس إلى الكفر والذنوب والمعاصي ، بل يصدهم عن فعل الخير ،
فلا يترك سبيلاً من سبل الخير ، يسلكه عبد من عباد الله إلا قعد فيه ، يصدّهم
ويميل بهم ، فعن سبرة بن أبي فاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : تسلم وتذر
دينك ودين آبائك وآباء آبائك ؟! فعصاه ، فأسلم .
ثم قعد له بطريق الهجرة ، فقال : تهاجر وتدع أرضك وسماءك ؟ وإنما مثل المهاجر كمثل
الفرس في الطول (5) . فعصاه ، فهاجر .
ثم قعد له بطريق الجهاد ، فقال : تجاهد فهو جهد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل ،
فتنكح المرأة ويقسم المال ؟! فعصاه ، فجاهد .
فمن فعل ذلك ، كان حقّا على الله أن يدخله الجنّة ، ومن قتل ، كان حقّاًَ على الله
أن يدخله الجنّة ، وإن غرق ، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابته ،
كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة ) (6) .
(47)
ومصداق
ذلك في كتاب الله ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال لرب العزة : ( قال فبما أغويتني
لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم – ثُمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شَمَآئِلِهِمْ ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 16-17 ] .
وقوله : ( لأقعدنَّ لهم صراطك ) أي : على صراطك ، فهو منصوب بنزع الخافض ، أو هو
منصوب بفعل مضمر ، أي : لألزمنّ صراطك ، أو لأرصدَنّه ، أو لأعوجنه .
وعبارات السف في تفسير الصراط متقاربة ، فقد فسر ابن عباس : بأنه الدين الواضح ،
وابن مسعود : بأنه كتاب الله ، وقال جابر : هو الإسلام ، وقال مجاهد : هو الحق .
فالشيطان لا يدع سبيلاً من سبل الخير إلا قعد فيه يصد الناس عنه .
5- إفساد الطاعات :
إذا لم يستطع الشيطان أن يصدهم عن الطاعات ، فإنه يجتهد في إفساد العبادة والطاعة
، كي يحرمهم الأجر والثواب ، ومن ذلك أن الصحابي عثمان بن أبي العاص أتى إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي ،
يَلبِسها عليّ " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك شيطان يقال له : خِنْزب ، فإذا أحسسته
فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثاً ) . قال : ففعلت ذلك ، فأذهبه الله عني
" (7) .
فإذا دخل العبد صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له ، ويشغله عن طاعة الله ، ويذكِره
بأمور الدنيا ؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : ( إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط ، حتى لا يسمع
التأذين ، فإذا قضي النداء أقبل ، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر ، حتى يخطر بين المرء
ونفسه ، يقول اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل لا يدري كم
صلى ) (8) .
دفع الشيطان الإنسان للمرور بين يدي المصلي :
(48)
عن أبي
صالح السمّان قال : رأيت أبا سعيد الخدري في يوم الجمعة يصلي إلى شيء يستُرهُ من
الناس ، فأراد شابٌّ من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه ، فدفع أبو سعيد في صدره
، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه ، فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من
الأولى ، فنال من أبي سعيد ، ثم دخل مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ، ودخل
أبو سعيد خلفه على مروان ، فقال : مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد ؟ قال : سمعتُ
النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستُرهُ من الناس فأراد
أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه ، فإن أبى ، فليقاتله ، فإنما هو شيطان ) (9) .
والمراد بقوله : ( فإنما هو شيطان ) ؛ أي فعله فعل شيطان كما يقول ابن حجر
العسقلاني .
إلا أن ابن حجر ذكر احتمالاً آخر أصح من الأول ، فإنه قال : ( ويحتمل أن يكون
المعنى : فإنما الحامل على ذلك الشيطان ، وقد وقع في رواية الإسماعيلي : ( فإن معه
الشيطان ) ، ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ : ( فإن معه القرين ) (10) .
كل مخالفة للرحمن فهي طاعة للشيطان :
يقول تعالى : ( إن يدعون من دونه إلاَّ إناثاً وإن يدعون إلاَّ شَّيطاناً مَّريداً
– لَّعنة الله وقال لأتَّخذنَّ من عبادك نصيباً مَّفروضاً ) [ النساء : 117-118 ]
. فكل من عبد غير الله من صنم أو وثن ، أو شمس وقمر ، أو هوى ، أو إنسان ، أو مبدأ
، فهو عابد للشيطان ، رضي أم أبى ؛ لأن الشيطان هو الآمر بذلك والمرغب فيه ، ولذلك
فإن عبّاد الملائكة يعبدون الشيطان في الحقيقة : ( ويوم يحشرهم جميعاً ثمَّ يقول
للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون – قالوا سبحانك أنت وليُّنا من دونهم بل
كانوا يعبدون الجنَّ أكثرهم بهم مُّؤمنون ) [ سبأ : 40-41 ] . يعني أن الملائكة لم
تأمرهم بذلك ، وإنما أمرتهم بذلك الجن ، ليكونوا عابدين للشياطين الذين يتمثلون
لهم ، كما يكون للأصنام شياطين .
الخلاصة :
(49)
والشيء
الذي نخلص إليه أن الشيطان يأمر بكل شرّ ، ويحث عليه ، وينهى عن كلّ خير ، ويخوف
منه ؛ كي يرتكب الأول ، ويترك الثاني .
كما قال تعالى : ( الشَّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مَّغفرةً
منه وفضلاً ) [ البقرة : 268 ] . وتخويفه إيانا الفقر بأن يقول : إن أنفقتم
أموالكم افتقرتم ، والفحشاء التي يأمرنا بها : هي كل فعلة فاحشة خبيثة من البخل
والزنا وغير ذلك .
6- الإيذاء البدني والنفسي :
كما يهدف الشيطان إلى إضلال الإنسان بالكفر والذنوب ، فإنه يهدف إلى إيذاء المسلم
في بدنه ونفسه ، ونحن نسوق بعض ما نعرفه من هذا الإيذاء :
أ- مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم :
ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بمهاجمة
الشيطان له ، ومجيء الشيطان بشهاب من نار ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم
.
ب- الحلم من الشيطان :
للشيطان قدرة على أن يرى الإنسان في منامه أحلاماً تزعجه وتضايقه ، بهدف إحزانه
وإيلامه .
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : أن الرؤى التي يراها المرء في منامه ثلاثة
أنواع ، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الرؤيا ثلاث : فبشرى ،
من الرحمن ، وحديث نفس ، وتخويف من الشيطان ) .
وفي رواية عن عوف بن مالك : ( إن الرؤيا ثلاث : منها أهاويل من الشيطان ؛ ليحزن
بها ابن آدم ) (11) .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها ، فإنما هي من الله ، فليحمد الله عليها ، وليحدّث بها
، وإذا رأى غير ذلك مما يكره ، فإنما هي من الشيطان ، فليستعذ من شرها ، ولا
يذكرها لأحد ، فإنها لا تضره ) (12) .
ج- إحراق المنازل بالنار :
(50)
وذلك
بوساطة بعض الحيوانات التي يغريها بذلك ، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن الرسول
صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نمتم فأطفئوا سُرُجكم ، فإن الشيطان يدلّ مثل هذه
( الفأرة ) على هذا ( السراج ) فيحرقكم ) (13) .
د- تخبط الشيطان الإنسان عند الموت :
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ذلك فيقول : ( اللهم إني أعوذ بك من
التردي ، والهدم ، والغرق ، والحريق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ،
وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً ، وأعوذ بك أن أموت لديغاً ) (14) .
هـ- إيذاؤه الوليد حين يولد :
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كلّ بني آدم
يمسّه الشيطان يوم ولدته أمّه إلا مريم وابنها ) (15) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني
آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ، ذهب يطعن ، فطعن
الحجاب ) (16) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : ( ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخاً من
مس الشيطان ، غير مريم وابنها ) (17) .
والسبب في حماية مريم وابنها من الشيطان استجابة الله دعاء أم مريم حين ولدتها : (
وإنَّي أعيذها بك وذريتها من الشَّيطان الرَّجيم ) [ آل عمران : 36 ] . ولذا فإن
أبا هريرة قرأ هذه الآية بعد روايته للحديث السابق (18) .
فلما كانت أم مريم – عليها السلام – صادقة في طلبها استجاب الله لها ، فأجار مريم
وابنها من الشيطان الرجيم .
وممن أجاره الله أيضاً عمار بن ياسر ، ففي صحيح البخاري : أن أبا الدرداء سأل
علقمة ، وكان من أهل الكوفة ، فقال : " أفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على
لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ " قال المغيرة : " الذي أجاره الله على
لسان نبيه صلى الله عليه وسلم يعني عماراً " (19) .
(51)
و- مرض
الطاعون من الجن :
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ( فناء أمته بالطعن والطاعون ؛ وخز أعدائكم من
الجنّ ، وفي كلّ شهادة ) (20) ، وفي مستدرك الحاكم : ( الطاعون وخز أعدائكم من
الجن ، وهو لكم شهادة ) (21) .
وما أصاب نبي الله أيوب كان بسبب الجن كما قال تعالى : ( واذكر عبدنا أيُّوب إذ
نادى ربه أنَّي مَسَّنِيَ الشَّيطان بنصبٍ وعذابٍ ) [ ص : 41 ] .
ز- بعض الأمراض الأخرى :
قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة ، وهي حمنة بنت جحش : ( إنما هذه ركضة من
ركضات الشيطان ) (22) .
ح- مشاركته لبني آدم في طعامهم وشرابهم ومسكنهم :
ومن الأذى الذي يجلبه الشيطان للإنسان أن يعتدي على طعامه وشرابه فيشركه فيهما ،
ويشركه في المبيت في منزله ، ويكون ذلك منه إذا خالف العبد هدي الرحمن ، أو غفل عن
ذكر الله ، أمّا إذا كان ملتزماً بالهدى الذي هدانا الله إليه ، لا يغفل عن ذكر
الله ، فإن الشيطان لا يجد سبيلاً إلى أموالنا وبيوتنا .
فالشيطان لا يستحل الطعام إلا إذا تناول منه أحد بدون أن يُسَمّي ، فإذا ذكر اسم
الله عليه ، فإنّه يحرم على الشيطان ، روى مسلم في صحيحه عن حذيفة ، قال : "
كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فيضع يده ، وإنّا حضرنا معه مرة طعاماً ، فجاءَت جارية
كأنها تدفع ، فذهبت لتضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيدها ، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع ، فأخذ بيده " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم
الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها ، فأخذت بيدها ، فجاء بهذا
الأعرابي ليستحلّ به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيدي إن يده في يدي مع يدها ) (23)
.
(52)
وقد
أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نحفظ أموالنا من الشيطان وذلك بإغلاق الأبواب
، وتخمير الآنية ، وذكر اسم الله ؛ فإن ذلك حرز لها من الشيطان ، ففي صحيح مسلم عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
أغلقوا الأبواب ، واذكروا اسم الله ، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، وأوكوا
قربكم ، واذكروا اسم الله ، وخمروا آنيتكم ، واذكروا اسم الله ، ولو أن تعرضوا
عليها شيئاً ، وأطفئوا مصابيحكم ) (24) .
ويشرب الشيطان مع الإنسان إذا شرب واقفاً ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً ، فقال له : ( قِهْ ) ، قال : لمه ؟ قال
: ( أيسرك أن يشرب معك الهر ؟ ) قال : لا ، قال : ( فإنه قد شرب معك من هو شرّ منه
الشيطان ) (25) .
وكي تطرد الشياطين من المنزل لا تنس أن تذكر اسم الله عند دخول المنزل ، وقد
أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، حيث يقول : ( إذا دخل الرجل بيته ، فذكر
الله عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإن دخل ، فلم
يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإن لم يذكر الله عند طعامه
، قال : أدركتم المبيت والعشاء ) (26) .
ط- مس الشيطان للإنسان ( الصرع ) :
يقول ابن تيمية (27) : " دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل
السنة والجماعة ، قال الله تعالى : ( الَّذين يأكلون الرِّبَا لا يقومون إلاَّ كما
يقوم الَّذي يتخبَّطه الشَّيطان من الْمَسِّ ) [ البقرة : 275 ] ، وفي الصحيح عن
النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) (28) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : " قلت لأبي : إن أقواماً يقولون : إن
الجني لا يدخل في بدن المصروع ، فقال : يا بني يكذبون ، هذا يتكلم على لسانه
" .
(53)
يقول ابن
تيمية : " هذا الذي قاله مشهور ، فإنّه يصرع الرجل ، فيتكلم بلسان لا يعرف
معناه ، ويُضْرب على بدنه ضرباً عظيماً ، لو ضرب به جمل ، لأثر به أثراً عظيماً ،
والمصروع مع هذا لا يحس الضرب ، ولا بالكلام الذي يقوله ، وقد يُجَرّ المصروعُ ،
وغير المصروع ، ويجر البساط الذي يجلس عليه ، ويحول الآلات ... ويجري غير ذلك من
الأمور من شاهدها أفادته علماً ضرورياً ، بأن الناطق على لسان الإنس ، والمحرك
لهذه الأجسام ، جنس آخر غير الإنسان " .
ويقول رحمه الله " وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع
وغيره ، ومن أنكر ذلك ، وادعى أن الشرع يكذب ذلك ، فقد كذب على الشرع ، وليس في
الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك " .
وذكر أنّ ممن أنكر دخول الجن بدن المصروع طائفة من المعتزلة ، كالجبائي وأبي بكر
الرازي (29) .
وسنحاول أن نلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع فيما بعد .
--------------------------------
(1) رواه مسلم : 4/2197 . ورقمه : 2865 .
(2) صحيح سنن الترمذي : 2/230 . ورقمه : 1753 .
(3) مشكاة المصابيح : 1/27 . ورقمه : 10 .
(4) غرائب وعجائب الجن ، للشبلي : ص 206 .
(5) الطول : الحبل الطويل ، يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره ، والطرف الآخر في يد
الفرس ليدور فيه ، ويرعى ولا يذهب لوجهه .
(6) صحيح سنن النسائي : 2/657 . ورقمه : 2937 .
(7) رواه مسلم : 4/1728 . ورقمه : 2203 .
(8) رواه البخاري : 2/84 . ورقمه : 608 . وانظر رقم : 1222 ، 1231 ، 1232 . ورواه
مسلم : 1/291 . ورقمه : 389 .
(9) رواه البخاري : 1/582 . ورقمه : 509 .
(10) فتح الباري : 1/584 .
(11) رواهما ابن ماجة . انظر صحيح ابن ماجة : 1/340 . ورقمهما : 3154-3155 .
(12) رواه البخاري : 12/369 . ورقمه : 6958 .
(13) صحيح سنن أبي داود : 3/958 . ورقمه : 4369 .
(14) صحيح سنن النسائي : 3/1123 . ورقمه : 5104 .
(15) رواه مسلم : 4/1838 . ورقمه : 2366 .
(54)
(16)
رواه البخاري : 6/337 . ورقمه : 3286 .
(17) رواه البخاري : 6/469 . ورقمه : 3431 .
(18) انظر صحيح البخاري : 6/469 . ورقمه : 3431 . وصحيح مسلم : 4/1838 . ورقمه :
2366 .
(19) صحيح البخاري : 6/337 . ورقمه : 3287 . وانظر أيضاً : 7/90 . ورقمه :
3742-3743 .
(20) صحيح الجامع الصغير : 4/90 . وانظر إرواء الغليل : 6/70 ، ورقمه : 1367 .
(21) راجع إرواء الغليل : 6/70 .
(22) صحيح سنن أبي داود : 1/56 . ورقمه : 267 ، وصحيح سنن النسائي : 1/40 ، ورقمه
: 110 . ولفظ النسائي : ( إنما هي ركضة من الشيطان ) .
(23) رواه مسلم : 3/1597 . ورقمه : 217 .
(24) رواه مسلم : 3/1594 . ورقمه : 2012 .
(25) سلسلة الأحاديث الصحيحة : ج1 ، ورقم الحديث : 175 . وقال فيه الهيثمي : رواه
أحمد والبزار ، ورجال أحمد ثقات . مجمع الزوائد : 3/79 .
(26) رواه مسلم : 3/1598 . ورقمه : 2018 .
(27) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 24/276 .
(28) صحيح البخاري : 6/336 . ورقمه : 3281 . ورواه مسلم : 4/1712 . ورقمه : 2175 .
(29) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 19/12 .
قائد المعركة في الصراع
الدائر بين عالم الشياطين وعالم البشر
إبليس هو الذي يخطط للمعركة مع بني الإنسان ويقودها ، ومن قاعدته يرسل البعوث
والسرايا في الاتجاهات المختلفة ، ويعقد مجالس يناقش جنوده وجيوشه فيما صنعوه ،
ويثني على الذين أحسنوا وأجادوا في الإضلال وفتنة الناس .
روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلة أعظمهم
فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقولُ : ما صنعت شيئاً . قال : ثمّ
يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال : فيدنو منه ، ويقول :
نعم أنت ) (1) .
(55)
وفي صحيح
مسلم عن أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن صائد وقد لقيه في بعض طرق
المدينة ؛ ( وكان يشك صلى الله عليه وسلم أنّه الدجال ) : ( ما ترى ) ؟ قال : أرى
عرشاً على الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ترى عرش إبليس على البحر
) (2) .
والشيطان له خبرة طويلة مديدة في مجال الإضلال ، ولذلك فإنّه يجيد وضع خططه ، ونصب
مصايده وأحابيله ، فهو لم يزل حيّاً يضل الناس منذ وجد الإنسان إلى اليوم وإلى أن
تقوم الساعة : ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون – قال فإنَّك من المنظرين – إلى
يوم الوقت المعلوم ) [ الحجر : 36-38 ] .
وهو دؤوب على القيام بالشر الذي نذر نفسه له ، لا يكل ولا يمل ، ففي الحديث : ( إن
الشيطان قال : وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال
الرب : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ) . رواه أحمد والحاكم بإسناد
حسن (3) .
جنود الشيطان من الجن والإنس :
والشيطان له فريقان من الجنود : فريق من الجان ، وفريق من بني الإنسان .
وقد سبق ذكر حديث إرساله سراياه من الشياطين لإضلال الناس ، وفي القرآن : (
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ... ) [الإسراء :64] فله
جنود يهاجمون راكبين راجلين ، يرسلهم على العباد ، يحركونهم إلى الشر تحريكاً : (
ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين توزُّهم أزّاً ) [ مريم : 83 ] .
لكل إنسان قرين :
(56)
وكل
إنسان له شيطان يلازمه لا يفارقه ، كما في حديث عائشة عند مسلم : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً ، قالت : فغرت عليه ، فجاء ، فرأى ما أصنع ،
فقال : ( ما لك يا عائشة ؟ أغرت ؟ ) فقلت : وما لي لا يغار مثلي على مثلك ؟ فقال
صلى الله عليه وسلم : ( أقد جاءك شيطانك ) . قالت : يا رسول الله ، أو معي شيطان ؟
قال : ( نعم ) ، قلت : ومع كل إنسان ؟ قال : ( نعم ) ، قلت : ومعك يا رسول الله ؟
قال : ( نعم ، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم ) (4) .
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما
منكم من أحد إلا وقد وُكّلَ به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة ) ، قالوا :
وإياك يا رسول الله ؟ قال : ( وإياي ، إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم ، فلا
يأمرني إلا بخير ) (5) .
وفي القرآن : ( ومن يعش عن ذكر الرَّحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرينٌ ) [ الزخرف
: 36 ] ، وفي الآية الأخرى : ( وقيَّضنا لهم قرناء فزيَّنوا لهم مَّا بين أيديهم
وما خلفهم ) [ فصلت : 25 ] .
وللشيطان أتباع من الإنس اتخذوه وليّاً ، يسيرون على خطاه ، ويرضون بفكره ، مع أنه
العدو الأول الذي يسعى في إهلاكهم ، وقبيح بالإنسان العاقل أن يتخذ عدوه وليّاً :
( أفتتخذونه وذريَّته أولياء من دوني وهم لكم عدوٌّ بئس للظَّالمين بدلاً ) [الكهف
: 50] .
(57)
ولقد
خسروا باتخاذه ولياً خسراناً مبيناً : ( ومن يتَّخذ الشَّيطان وليّاً من دون الله
فقد خسر خسراناً مُّبيناً ) [ النساء : 119 ] . خسروا لأن الشيطان سيدسّي نفوسهم
ويفسدها ، ويحرمهم من نعمة الهداية ، ويرمي بهم في الضلالات والشبهات : ( والَّذين
كفروا أولياؤهم الطَّاغوت يخرجونهم من النُّور إلى الظُّلمات أولئك أصحاب النَّار
هم فيها خالدون ) [ البقرة : 257 ] ، وخسروا لأنه سيقودهم إلى النار : ( إنَّما
يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السَّعير ) [ فاطر : 6 ] ، وهؤلاء أولياء الشيطان
يتخذهم الشيطان مطية وجنوداً ، ينفذ بهم مخططاته وأهدافه .
كيده وخذلانه لأوليائه :
يتولى كثير من الناس الشيطان ، ولكنه يكيد لهم ويوردهم الموارد التي فيها هلاكهم
وعطبهم ، ويتخلى عنهم ، ويسلمهم ، ويقف يشمت بهم ، ويضحك منهم ، فيأمرهم بالقتل
والسرقة والزنا ، ويدلُّ عليهم ، ويفضحهم ، فعل ذلك بالمشركين في معركة بدر ،
عندما جاءَهم متمثلاً في صورة سراقة بن مالك ، ووعدهم بالنصر والغلب : ( وقال لا
غالب لكم اليوم من النَّاس وإني جارٌ لَّكم ) [ الأنفال : 48 ] ، فلما رأى عدو
الله الملائكة نزلت لنصرة المؤمنين ، ولى هارباً وأسلمهم ، كما قال حسان بن ثابت :
دلاهم بغُرُور ثمّ أسلمهم ××× إن الخبيث لمن والاه غرارُ
وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها ، فإنه أمره بالزنا ، ثمّ بقتلها ، ثمّ
دلّ أهلها عليه ، وكشف أمره لهم ، ثمّ أمره بالسجود له ، فلما فعل فرّ عنه وتركه ،
كما سيأتي بيانه .
وفي يوم القيامة يقول لأوليائه بعد دخوله ودخولهم النار : ( إِنِّي كفرت بما
أشركتمون من قبل ) [ إبراهيم : 22 ] ، فأوردهم شرّ الموارد ، ثمّ تبرأ منهم كل
البراءةَ .
وستأتي قصة ذلك يدّعي أنّه عالم روحاني ، وكيف تخلت عنه الشياطين بعد أن بلغ
مبلغاً كبيراً من الشهرة ، فأصبح حائراً لا يدري ما يفعل .
الشيطان يجند أولياءَه لخدمته ومحاربة المؤمنين :
(58)
الناس
فريقان : أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان . وأولياء الشيطان هم الكَفَرَة على
اختلاف مللهم ونحلهم :( إنَّا جعلنا الشَّياطين أولياء للَّذين لا يؤمنون )
[الأعراف :27] .
والشيطان يسخّر هؤلاء لتضليل المؤمنين بما يلقونه من الشبه : ( وإنَّ الشَّياطين
ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون ) [ الأنعام : 121 ] .
وما هذه الشبهات التي يقوم بها المستشرقون والصليبيون واليهود والملحدون إلا من
هذا القبيل .
ويدفع الشيطان أولياءَه لإيذاء نفوس المؤمنين : ( إنَّما النَّجوى من الشَّيطان
ليحزن الَّذين آمنوا ) [ المجادلة : 10 ] . فقد كان يدفع المشركين للتناجي حين
وجود المسلمين على مقربة منهم ، فيظن المسلم أنه يتآمرون عليه ...
بل يدفعهم إلى حرب المسلمين وقتالهم : ( الَّذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله
والَّذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشَّيطان إنَّ كيد
الشَّيطان كان ضعيفاً ) [النساء : 76] .
وهو دائماً يخوف المؤمنين أولياءَه : ( إنَّما ذلكم الشَّيطان يخوف أولياءه فلا
تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين ) [ آل عمران : 175 ] ، وأولياؤه جمع كبير : (
ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه فاتَّبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين ) [ سبأ : 20 ]
.
--------------------------------
(1) رواه مسلم : 4/2167 . ورقمه : 2814 .
(2) صحيح مسلم : 4/2241 . ورقمه : 2025 .
(3) صحيح الجامع الصغير : 2/72 .
(4) رواه مسلم : 4/2168 . ورقمه : 2815 .
(5) رواه مسلم : 4/2168 ، ورقمه : 2814 .
أساليب الشيطان في إضلال الإنسان ( الجزء الأول )
لا يأتي الشيطان إلى الإنسان ويقول له : اترك هذه الأمور الخيرة ، وافعل هذه
الأمور السيئة ؛ كي تشقى في دنياك وأخراك ؛ لأنه لو فعل ذلك فلن يطيعه أحد ، ولكنه
يسلك سبلاً كثيرة ، يغرر بها بعباد الله .
1- تزيين الباطل :
(59)
هذا هو
السبيل الذي كان الشيطان ، ولا يزال ، يسلكه لإضلال العباد ، فهو يظهر الباطل في
صورة الحق ، والحق في صورة الباطل ، ولا يزال بالإنسان يحسن له الباطل ، ويكرهه
بالحق ، حتى يندفع إلى فعل المنكرات ، ويعرض عن الحق ، كما قال اللعين لربّ العزة
: ( قال رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض ولأغوينَّهم أجمعين – إلاَّ عبادك
منهم المخلصين ) [ الحجر : 39-40 ] .
يقول ابن القيم في هذا الصدد : " ومن مكايده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده
، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله ، فيزين له الفعل الذي يضره ، حتى يخيل إليه
أنّه أنفع الأشياء ، وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له ، حتى يخيل له أنّه
يضره ، فلا إله إلا الله ، كم فتن بهذا السحر من إنسان ! وكم حال به بين القلب
وبين الإسلام والإيمان والإحسان ! وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة ، وشنع
الحق وأخرجه في صورة مستهجنة ! وكم بهرج من الزيوف على الناقدين ، وكم روج من
الزغل على العارفين !
فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة ،
وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك ، وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك ، وزين لهم
عبادة الأصنام ، وقطيعة الأرحام ، ووأد البنات ، ونكاح الأمهات ، ووعدهم بالفوز
بالجنات ، مع الكفر بصفات الرب تعالى وعلوه وتكلمه بكتبه ووضعهم ذلك في قالب
التنزيه ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس ، وحسن
الخلق معهم ، والعمل بقوله : ( عليكم أنفسكم ) [ المائدة : 105 ] ، والإعراض عما
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في قالب التقليد ، والاكتفاء بقول من هو أعلم
منهم ، والنفاق والإدهان في دين الله في قالب العقل المعيشي الذي يندرج به العبد بني
الناس " (1) .
(60)
وبهذا
السبيل كاد إبليس اللعين آدم عليه السلام ؛ إذ زين له الأكل من الشجرة التي حرمها
الله عليه ، فما زال به يزعم له أن هذه هي شجرة الخلد ، وأن الأكل منها يجعله
خالداً في الجنة ، أو ملكاً من الملائكة ، حتى أطاعه ، فخرج من الجنة .
وانظر إلى أولياء الشيطان اليوم كيف يستخدمون هذا السبيل في إضلال العباد .
فهذه الدعوات إلى الشيوعية والاشتراكية .... ، يزعمون أنها هي المذاهب التي تخلص
البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع ، ... وهذه الدعوات التي تدعو إلى خروج
المرأة كاسية عارية باسم الحرية ، وتدعو إلى هذا التمثيل السخيف الذي تداس فيه
الأعراض والأخلاق ، وتنتهك فيه الحرمات باسم الفن .
وتلك الأفكار المسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا ؛ لتحقيق
الأرباح باسم التنمية والربح الوفير .
وتلك الدعوات التي تزعم أن التمسك بالدين رجعية وجمود وتأخر ، والتي تسم دعاة
الإسلام بالجنون والعمالة لدول الشرق والغرب ... إلخ .
كل ذلك امتداد لسبيل الشيطان الذي كاد به آدم منذ عهد بعيد ، وهو تزيين الباطل
وتحسينه ، وتقبيح الحق وتكريه الناس به : ( تالله لقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك
فزيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم ) [ النحل : 63 ] .
وهو – والله – سبيل خطر ؛ لأن الإنسان إذا زين له الباطل فرآه اندفع بكل قواه ؛
لتحقيق ما يراه حقاً ، وإن كان فيه هلاكه : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً –
الَّذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدُّنيا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعاً ) [الكهف
:103-104] .
وهؤلاء يندفعون لصدّ الناس عن دين الله ومحاربة أولياء الله ، وهم يظنون أنفسهم
على الحقّ والهدى ، ( وإنَّهم ليصدٌّونهم عن السَّبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون ) [
الزخرف : 37 ] .
(61)
وهذا هو
السبب الذي من أجله آثر الكفار الدنيا ، وأعرضوا عن الآخرة ، كما قال تعالى : (
وقيَّضنا لهم قرناء فزيَّنوا لهم مَّا بين أيديهم وما خلفهم ) [ فصلت : 25 ] .
فالقرناء هم الشياطين ، زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها ،
ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة ، وزينوا لهم ذلك حتى أنكروا البعث والحساب والجنّة
والنار .
تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة :
ومن تغرير الشيطان بالإنسان وتزيينه الباطل أن يسمّي الأمور المحرمة ، التي هي
معصية لله ، بأسماء محببة للنفوس خداعاً للإنسان وتزويراً للحقيقة ، كما سمّى
الشجرة المحرمة بشجرة الخلد ، كي يزين لآدم الأكل منها : ( قال يا آدم هل أدلُّك
على شجرةٍ الخلد ومُلكٍ لا يَبْلَى) [ طه : 120 ] .
يقول ابن القيم : " ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب
النفوس مسمياتها ، فسموا الخمر : أم الأفراح ، وسموا أخاها بلقمة الراحة ، وسموا
الربا بالمعاملة ، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية ... " .
واليوم يسمون الربا الفائدة ، والرقص والغناء والتمثيل وصناعة التماثيل فناً .
2- الإفراط والتفريط :
يقول ابن القيم في هذه المسألة : " وما أمر الله – عزّ وجلّ – بأمر إلا
وللشيطان فيه نزعتان : إما تقصير وتفريط ، وإما إفراط وغلوّ ، فلا يبالي بما ظفر
من العبد من الخطيئتين ، فإنّه يأتي إلى قلب العبد فيشامّه ، فإن وجد فيه فتوراً
وتوانياً وترخيصاً أخذه من هذه الخطة ، فثبطه وأقعده ، وضربه بالكسل والتواني
والفتور ، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك ، حتى ربما ترك العبد المأمورَ
جملة .
(62)
وإن وجد
عنده حذراً وجِدّاً ، وتمشيراً ونهضة ، وأيس أن يأخذه من هذا الباب ، أمره
بالاجتهاد الزائد ، وسوّل له أن هذا لا يكفيك ، وهمتك فوق هذا ، وينبغي لك أن تزيد
على العاملين ، وأن لا ترقد إذا رقدوا ، وأن لا تفطر إذا أفطروا ، وأن لا تفتر إذا
فتروا ، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات ،فاغسل أنت سبعاً ، وإذا توضأ للصلاة
، فاغتسل أنت لها ، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي ، فيحمله على الغلو والمجاوزة ،
وتعدي الصراط المستقيم ، كما يَحْمِلُ الأول على التقصير دونه وألا يقربه .
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم : هذا بألا يقربه ولا يدنو منه ،
وهذا بأن يجاوزه ويتعداه ، وقد فتن بهذا أكثر الخلق ، ولا يُنْجي من ذلك إلا علم
راسخ ، وإيمان وقوة على محاربته ، ولزوم الوسط . والله المستعان " (2) .
3- تثبيطه العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل :
وله في ذلك أساليب وطرق ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ( القافية : مؤخر الرأس ) ،
إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب مكان كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر
الله ، انحلت عقدة ، فإن توضأ ، انحلت عقدة ، فإن صلى ، انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً
طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) (3) .
وفي البخاري ومسلم : ( إذا استقظ أحدكم من منامه فتوضأ ، فليستثر ثلاثاً ، فإن
الشيطان يبيت على خيشومه ) (4) .
وفي صحيح البخاري : أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر عنده رجل نام ليلة حتى أصبح
، فقال : ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) (5) .
(63)
وهذا
الذي ذكرناه تكسيل وتثبيط من الشيطان بفعله ، وقد يثبط الإنسان بالوسوسة ، وسبيله
في ذلك أن يحبب للإنسان الكسل ، ويسوّف العمل ، ويسند الأمر إلى طول الأمل ، يقول
ابن الجوزي في هذا : ( كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حبّ الإسلام ، فلا يزال
إبليس يثبطه ، ويقول : لا تعجل وتمهل النظر ، فيسوفه حتى يموت على كفره ، وكذلك
يسوف العاصي بالتوبة ، فيعجل له غرضه من الشهوات ، ويمنيه الإنابة ، كما قال
الشاعر :
لا تعجل الذنب لما تشتهي ××× وتأمل التوبة من قابل
وكم من عازم على الجدّ سوفه ! وكم ساع إلى مقام فضيلة ثَبّطه ! فلربما عزم الفقيه
على إعادة درسه ، فقال : استرح ساعة ، أو انتبه العابد في الليل يصلي ، فقال له :
عليك وقت ، ولا يزال يحبب الكسل ، ويسوف العمل ، ويسند الأمر إلى طول الأمل .
فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم ، والحزم تدارك الوقت ، وترك التسويف ، والإعراض
عن الأمل ، فإنّ المخوف لا يؤمن ، والفوات لا يبعث ، وسبب كل تقصير ، أو ميل إلى
شرّ طول الأمل ، فإن الإنسان لا يزال يحدّث نفسه بالنزوع عن الشر ، والإقبال على
الخير ، إلا أنه يَعِدُ نفسه بذلك ، ولا ريب أنه من أمّل أن يمشي بالنهار سار
سيراً فاتراً . ومن أمل أن يصبح عمل في الليل عملاً ضعيفاً ، ومن صوّر الموت
عاجلاً جدّ ...
وقال بعض السلف : أنذركم ( سوف ) ، فإنها أكبر جنود إبليس ، ومثل العامل على الحزم
والساكن لطول الأمل ، كمثل قوم في سفر ، فدخلوا قرية ، فمضى الحازم ، فاشترى ما
يصلح لتمام سفره ، وجلس متأهباً للرحيل ، وقال المفرط : سأتأهب فربما أقمنا شهراً
، فضرب بوق الرحيل في الحال ، فاغتبط المحترز ( المتوقي الحازم ) ، وتحير الأَسِفُ
المفرط .
(64)
فهذا مثل
الناس في الدنيا ، منهم المستعد المستيقظ ، فإذا جاء ملك الموت لم يندم ، ومنهم
المغرور المسوّف يتجرع مرير الندم وقت الرحلة . فإذا كان في الطبع حب التواني وطول
الأمل ، ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع ، صعبت المجاهدة ، إلا أنه
من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب ، وأن عدوّه لا يفتر عنه ، فإن فتر في الظاهر ،
بطّن له مكيدة ، وأقام له كميناً " (6) .
4- الوعد والتمنية :
وهو يعد الناس بالمواعيد الكاذبة ، ويعللهم بالأماني المعسولة ؛ كي يوقعهم في وهدة
الضلال : ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشَّيطان إلاَّ غروراً ) [ النساء : 120 ] .
يعد الكفرة في قتالهم المؤمنين بالنصر والتمكين والعزة والغلبة ، ثم يتخلى عنهم ،
ويولي هاربا : ( وإذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من
النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم فلمَّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنِّي برئٌ
منكم ) [ الأنفال : 48 ] .
ويعد الأغنياء الكفرة بالثروة والمال في الآخرة بعد الدنيا ، فيقول قائلهم : (
ولئِن رُّددتُّ إلى رَبِّي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً ) [ الكهف : 36 ] ، فيدمر
الله جنته في الدنيا ، فيعلم أنّه كان مغروراً مخدوعاً .
ويشغل الإنسان بالأماني المعسولة ، التي لا وجود لها في واقع الحياة ، فيصده عن
العمل الجاد المثمر ، ويرضى بالتخيل والتمني ، وهو لا يفعل شيئاً .
5- إظهار النصح للإنسان :
يدعو الشيطان المرء إلى المعصية ، يزعم أنه ينصح له ويريد خيره ، وقد أقسم لأبينا
على أنه ناصح له : ( وقاسمهما إِنِّي لكما لمن النَّاصحين ) [ الأعراف : 21 ] .
وقد روى وهب بن منبه هذه القصة الطريفة عن أهل الكتاب (7) ، نسوقها لنعلم أسلوباً
من أساليب الشيطان في إضلاله العباد ، وكي نحذر نصحه ، ونخالفه فيما يدعونا إليه .
(65)
يقول وهب
: " إن عابداً كان في بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه
ثلاثة إخوة ، لهم أخت ، وكانت بكراً ، ليس لهم أخت غيرها ، فخرج البعث على ثلاثتهم
، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ، ولا من يأمنونه عليها ، ولا عند من يضعونها .
قال : فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل ، وكان ثقة في أنفسهم ،
فأتوه فسألوه عن أن يخلفوها عنده ، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم
، فأبى ذلك عليهم ، وتعوذ بالله منهم ومن أختهم ، قال : فلم يزالوا به حتى أطاعهم
. فقال : أنزلوها في بيت حذاء صومعتي . فأنزلوها في ذلك البيت ، ثم انطلقوا
وتركوها .
فمكثت في جوار ذلك العابد زمناً ينزل إليها بالطعام من صومعته ، فيضعه عند باب
الصومعة ، ثم يغلق بابه ويصعد إلى الصومعة ، ثم يأمرها فتخرج من بيتها ، فتأخذ ما
وضع لها من الطعام ، قال : فتلطف له الشيطان ، فلم يزل يرغبه في الخير ، ويعظم
عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً ، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها ، فلو مشيت
بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم أجراً . قال : فلم يزل به حتى مشى إليها
بطعامها ، ووضعه على باب بيتها ، ولم يكلمها .
قال : فلبث على هذه الحال زماناً ، ثم جاءَه إبليس فرغّبه في الخير والأجر وحضه
عليه ، وقال : لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك ، فلم
يزل به حتى مشى إليها بالطعام ، ثم وضعه في بيتها ، فلبث على ذلك زماناً .
ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه ، فقال : لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس
بحديثك ، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة ، فلم يزل به حتى حدثها زماناً يطّلع إليها
من فوق صومعته .
(66)
ثم أتاه
إبليس بعد ذلك ، فقال : لو كنت تتنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها ، وتقعد
هي على باب بيتها ، فتحدثك كان آنس لها . فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب
صومعته يحدثها وتحدثه ، وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها ، فلبثا
زماناً يتحدثان .
ثم جاءَه إبليس فرغبه في الأجر والثواب فيما يصنع بها ، وقال : لو خرجت من باب
صومعتك ، ثم جلست قريباً من بيتها ، فحدثتها كان آنس لها ، فلم يزل به حتى فعل .
فلبثا زمناً على ذلك .
ثم جاءه إبليس ، فقال : لو دخلت البيت معها فحدثتها ، ولم تتركها تبرز وجهها لأحد
كان أحسن بك ، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها ، نهارها كله ، فإذا مضى
النهار صعد صومعته .
ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها ، فلم
يزل به إبليس يحسنها في عينه ، ويسول له حتى وقع عليها ، فأحبلها فولدت له غلاماً
، فجاء إبليس فقال : أرأيت إن جاء إخوة الجارية ، وقد ولدت منك فكيف تصنع ؟ لا آمن
عليك أن تفتضح أو يفضحوك ، فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه ، فإنها ستكتم ذلك عليك
مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ، ففعل .
فقال له : أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ، خذها واذبحها ، وادفنها
مع ابنها ، فلم يزل به حتى ذبحها ، وألقاها في الحفرة مع ابنها ، وأطبق عليهما
صخرة عظيمة ، وسوّى عليهما ، وصعد إلى صومعته يتعبد فيها ، فمكث بذلك ما شاء الله
أن يمكث ، حتى أقبل إخوتها من الغزو ، فجاؤوا فسألوه عنها ، فنعاها لهم ، وترحم
عليها وبكاها . وقال : كانت خير امرأة ، وهذا قبرها ، فانظروا إليه . فأتى إخوتها
القبر فبكوا أختهم ، وترحموا عليها ، فأقاموا على قبرها أياماً ، ثمّ انصرفوا إلى
أهاليهم .
(67)
فلما جنّ
عليهم الليل ، وأخذوا مضاجعهم ، جاءَهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر ،
فبدأ بأكبرهم ، فسأله عن أختهم ، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها ، وكيف
أراهم موضع قبرها فأكذبه الشيطان . وقال : لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم
وولدت منه غلاماً ، فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم ، وألقاهما في حفيرة احتفرها خلف
باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله ، فإنكم ستجدونها كما أخبرتكم هناك
جميعاً . وأتى الأوسط في منامه ، فقال له مثل ذلك . ثم أتى أصغرهم ، فقال له مثل
ذلك .
فلما استيقظ القوم ، أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم ، فأقبل بعضهم على بعض
يقول كل واحد منهم : لقد رأيت الليلة عجباً ، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى .
فقال كبيرهم : هذا حلم ليس بشيء ، فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم ، قال أصغرهم : والله
لا أمضي حتى آتي هذا المكان ، فأنظر فيه . قال : فانطلقوا حتى أتوا البيت الذي
كانت فيه أختهم ، ففتحوا الباب ، وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم ، فوجدوا
أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة ، كما قيل لهم ، فسألوا عنها العابد فصدّق قول
إبليس فيما صنع بهما ، فاستَعْدَوْا عليه ملكهم ، فأنزل من صومعته ، وقدّم ليصلب .
فلما أوثقوه على الخشبة ، أتاه الشيطان ، فقال له : قد علمت أني أنا صاحبك الذي
فتنتك بالمرأة ، حتى أحبلتها ، وذبحتها وابنها ، فإن أنت أطعتني اليوم ، وكفرت
بالله الذي خلقك وصوّرك ، خلصتك مما أنت فيه ، فكفر العابد ، فلما كفر بالله تعالى
، خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه " (8) .
وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى : ( كمثل الشَّيطان إذ قال للإنسان
اكفر فلمَّا كفر قال إنَّي بريءٌ منك ) [ الحشر : 16 ] ، ويذكرون أن المعنيّ
بالإنسان هذا العابد وأمثاله . والله أعلم .
6- التدرج في الإضلال :
(68)
ومن
القصة السابقة نعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في الإضلال ، وهو أن يسير بالإنسان
خطوة خطوة ، لا يكل ولا يملّ ، كلما روّضه على معصية ما ، قاده إلى معصية أكبر
منها ، حتى يوصله إلى المعصية الكبرى ، فيوبقه ويهلكه ، وتلك سنة الله في عباده ،
أنهم إذا زاغوا سلط عليم الشيطان ، وأزاغ قلوبهم : ( فلمَّا زاغوا أزاغ الله
قلوبهم ) [الصف : 5] .
7- إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه :
ومن ذلك ما فعله بآدم ، فما زال يوسوس له حتى أنساه ما أمره به ربّه : ( ولقد
عهدنا إلى آدم من قبل فَنَسِيَ ولم نجد له عزماً ) [ طه : 115 ] ، وقال صاحب موسى
لموسى : ( فإني نسيت الحوت وما أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيطان أن أذكره ) [ الكهف :
63 ] .
ونهى الله رسوله أن يجلس هو أو واحد من أصحابه في المجالس التي يستهزأ فيها بآيات
الله ، ولكن الشيطان قد ينسي الإنسان أمر ربه ، فيجالس هؤلاء المستهزئين : ( وإذا
رأيت الَّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيره وإمَّا
ينسينَّك الشَّيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظَّالمين ) [ الأنعام : 68 ] .
وطلب نبي الله يوسف إلى السجين الذي ظنّ بأنه سينجو من القتل ، ويعود لخدمة الملك
أن يذكره عند مليكه ، فأنسى الشيطان هذا الإنسان أن يذكر لملكه نبي الله يوسف ،
فمكث يوسف في السجن بضع سنين : ( وقال للَّذي ظنَّ أنَّه ناجٍ منهما اذكرني عند
ربك فأنساه الشَّيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ) [يوسف : 42] .
وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً ، فإنه ينسيه الله بالكلية : ( استحوذ
عليهم الشَّيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشَّيطان ألا إنَّ حزب الشَّيطان هم
الخاسرون ) [ المجادلة : 19 ] . وهؤلاء هم المنافقون ، كما دلت عليه الآية السابقة
لهذه الآية . وسبيل التذكر هو ذكر الله ؛ لأنه يطرد الشيطان : ( واذكر ربَّك إذا
نسيت ) [الكهف : 24] .
8- تخويف المؤمنين أولياءَه :
(69)
ومن
وسائله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه ، فلا يجاهدونهم ، ولا يأمرونهم
بالمعروف ، ولا ينهونهم عن المنكر ، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان ، وقد أخبرنا
سبحانه عن هذا فقال : ( إنَّما ذلكم الشَّيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن
كنتم مُّؤمنين ) [ آل عمران : 175 ] .
والمعنى : يخوفكم بأوليائه ، قال قتادة : " يعظمهم في صدوركم ، ولهذا قال : (
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين ) ، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف
أولياء الشيطان ، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم " .
9- دخوله إلى النفس من الباب الذي تحبه وتهواه :
يقول ابن القيم في هذا الموضوع : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ،
حتى يصادف نفسه ويخالطها ، ويسألها عمّا تحبه وتؤثره ، فإذا عرفه استعان بها على
العبد ، ودخل عليه من هذا الباب ، وكذلك عَلّم إخوانه وأولياءَه من الإنس ، إذا
أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضاً أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه
ويهوونه ، فإنّه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه ، ومن رام الدخول من غيره ،
فالباب عليه مسدود ، وهو عن طريق مقصده مصدود " (9) .
ومن هاهنا دخل الشيطان على آدم وحواء كما قال تعالى : ( وقال ما نهاكما ربُّكما عن
هذه الشَّجرة إلاَّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ الأعراف : 20 ] .
يقول ابن القيم : " فشام عدو الله الأبوين ، فأحس منهما إيناساً وركوناً إلى
الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم ، فعلم أنّه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب
، فقاسمهما بالله إنّه لهما لمن الناصحين ، وقال : ( ما نهاكما ربُّكما عن هذه
الشَّجرة إلاَّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ الأعراف : 20 ] ".
10- لقاء الشبهات :
(70)
ومن
أساليبه في إضلال العباد زعزعة العقيدة بما يلقيه من شكوك وشبهات ، وقد حذرنا الرسول
صلى الله عليه وسلم من بعض هذه الشبهات التي يلقيها ، ففي حديث البخاري ومسلم عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول :
من خلق كذا وكذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله
وليْنتهِ ) (10) .
ولم يسلم الصحابة – رضوان الله عليهم – من شبهاته وشكوكه ، وجاء بعضهم إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم يشكون ما يعانونه من شكوكه ووساوسه ، ففي صحيح مسلم عن أبي
هريرة – رضي الله عنه – قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به
! قال : ( أو قد وجدتموه ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( ذلك صريح الإيمان ) (11) .
وصريح الإيمان دفعهم وسوسة الشيطان وكراهيتهم واستعظامهم لها ، وقد سئل الرسول صلى
الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال : ( تلك محض الإيمان ) (12) .
وانظر إلى شدّة ما كان يعانيه الصحابة من شكوكه ، روى أبو داود في سننه عن ابن
عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا
يجد في نفسه – يعرض بالشيء – لأن يكون حممة أحبّ إليه من أن يتكلم به ، فقال : (
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) (13) .
(71)
ومن جملة
ما يلقيه في النفوس مشككاً ما حدثنا الله عنه في قوله : ( وما أرسلنا من قبلك من
رسولٍ ولا نَبِيٍّ إلاَّ تمنَّى ألقى الشَّيطان في أمنيَّته فينسخ الله ما يلقي
الشَّيطان ثمَّ يحكم الله آياته والله عليم حكيم – ليجعل ما يلقي الشَّيطان فتنةً
للَّذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم وإنَّ الظَّالمين لفي شقاق بعيدٍ – وليعلم
الَّذين أوتوا العلم أنَّه الحقُّ من ربك فيؤمنوا به فَتُخْبِتَ له قلوبهم وإنَّ
الله لهاد الَّذين آمنوا إلى صراطٍ مستقيمٍ ) [ الحج :52-54] .
والمراد بالتمني هنا حديث النفس ، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة ، فيقول : لو سألت الله – عز وجل –
أن يغنمك ليتسع المسلمون ، أو يتمنى إيمان الناس جميعاً .... فينسخ الله ما يلقيه
الشيطان بوسواسه في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بتنبيهه إلى الحق ،
وتوجيهه إلى مراد الله ... ، وما قيل من أن مراد الآية أن الشيطان يدخل في القرآن
ما ليس منه ففيه بعد ، ويرده أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم في التبليغ .
يقول شقيق ، مبيناً بعض الشبهات التي قذفها الشيطان في نفس ا لإنسان : ما من صباح
إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد : من بين يدي ، ومن خلفي ، وعن يميني ، وعن
شمالي ، فيقول : لا تخف فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ : ( وإني لغفَّارٌ لمن تاب
وآمن وعمل صالحاً ثمَّ اهتدى ) [ طه : 82 ] ، وإما من خلفي فيخوفني الضيعة على من
أخلفه ، فأقرأ : ( وما من دابَّةٍ في الأرض إلاَّ على الله رزقها ) [ هود : 6 ] ،
ومن قبل يميني ، يأتيني من قبل النساء ، فأقرأ : ( والعاقبة للمتَّقين ) [ الأعراف
: 128 ] ، ومن قبل شمالي ، فيأتيني من قبل الشهوات ، فأقرأ : ( وحيل بينهم وبين ما
يشتهون ) [ سبأ : 54 ] .
--------------------------------
(1) إغاثة اللهفان : 1/130 .
(2) الوابل الصيب :ص19 .
(72)
(3) رواه
البخاري : 3/24 . ورقمه : 1143 .
(4) صحيح البخاري : 6/339 . ورقمه : 3295 . ورواه مسلم : 1/213 . ورقمه : 238 ،
واللفظ للبخاري .
(5) رواه البخاري : 3/28 . ورقمه : 1144 .
(6) تلبيس إبليس : 458 .
(7) هذه القصة وأمثالها من الإسرائليات لا تصدق ولا تكذب ، ويجوز التحديث بها يقول
الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) .
(8) تلبيس إبليس : ص 39 .
(9) إغاثة اللهفان : 1/132 .
(10) رواه البخاري : 6/336 . ورقمه : 3277 . ورواه مسلم : 1/120 . ورقمه : 134 .
(11) رواه مسلم :1/119 . ورقمه : 132 .
(12) رواه مسلم : 1/119 . ورقمه : 133 .
(13) صحيح سنن أبي داود : 3/964 . ورقمه : 4271 .
أساليب الشيطان في إضلال الإنسان ( الجزء الثاني )
11-14- الخمر والميسر والأنصاب والأزلام :
قال تعالى : ( إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشَّيطان
فاجتنبوه لعلَّكم تفلحون – إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة فهل أنتم مُّنتهون ) [
المائدة : 90-91 ] .
والخمر : كل ما يسكر ، والميسر : القمار ، والأنصاب : كل ما نصب كي يعبد من دون
الله ، من حجر ، أو شجر ، أو وثن ، أو قبر ، أو علم . والأزلام : القداح كانوا
يستقسمون بها الأمور ؛ أي : يطلبون بها علم ما قسم لهم .
وهذه قد تكون أقداحاً أو سهاماً أو حُصَيّات أو غير ذلك ، يكون مكتوباً على واحد
منها أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، فإذا شاء أحدهم زواجاً أو سفراً أو نحو
ذلك ، أدخل يده في الشيء الذي فيه هذه القداح أو السهام ، فإن خرج الذي فيه الأمر
بالفعل فعل ، وإن خرج الآخر ترك .
(73)
فالشيطان
يحض الناس على هذه الأربع ؛ لأنها ضلال في نفسها ، وتؤدي إلى نتائج وخيمة ، وآثار
سيئة ، فالخمر تفقد شاربها عقله ، فإذا فقد عقله فعل الموبقات ، وارتكب المحرمات ،
وترك الطاعات ، وآذى عباد الله .
ذكر ابن كثير في تفسيره عن عثمان بن عفان قال : " اجتنبوا الخمر ، فإنها أمّ
الخبائث ، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس ، فعلقته امرأة غويّة ،
فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة ، فدخل معها ، فطفقت كلما دخل باباً تغلقه
دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة ، عندها غلام ، وباطية خمر .
فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة ، ولكن دعوتك لتقع عليّ ، أو تقتل هذا الغلام ،
أو تشرب هذا الخمر ، فسقته كأساً ، فقال : زيدوني ، فلم يرم حتى وقع عليها ، وقتل
النفس ، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه "
(1) .
وروى ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ،
والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقاص : أن رجلاً من الأنصار صنع طعاماً لبعض
الصحابة ، ثمّ سقاهم خمراً قبل أن ينزل تحريمها ، فلما سكروا تفاخروا ، فتعاركوا ،
وأصاب سعد بن أبي وقاقص من هذا العراك أذى ، فقد ضربه أحدهم بلحي بعير ، فأصاب
أنفه ، فأثر فيه أثراً صاحبه طيلة حياته (2) .
وتقدم أحدُ الصحابة يصلي بالناس وهو سكران ، قبل نزول تحريم الخمر فقرأ : ( قل يا
أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ) فأنزل الله : ( لا تقربوا الصَّلاة وأنت سكارى
حتَّى تعلموا ما تقولون ) [النساء : 43] (3) .
وقد رأينا الرجل الذي بلغ من الكبر عِتّياً عندما يشرب الخمر يتصرف تصرفات
المجانين ، ويضحك منه الكبار والصغار ، ويفترش الطريق تدوسه الناس بأقدامها .
والميسر مرض خطير كالخمر ، إذا تأصل في نفس الإنسان صعب الشفاء منه ، وهو سبيل
لضياع الوقت والمال ، والميسر ينشئ الأحقاد ، ويدفع الحرام .
(74)
والشيطان
يدعو إلى إقامة النصب كي تتخذ بعد ذلك آلهة تُعبد من دون الله ، وقد انتشرت عبادة
الأنصاب قديماً وحديثاً ، والشياطين تلازم هذه الأصنام ، وتخاطب عبادها في بعض
الأحيان ، وتريهم بعض الأمور التي تجعل عابديها يثقون بها ، فيقصدونها بالحاجات ،
ويدعونها في الكربات ، ويستنصرون بها في الحروب ، ويقدمون لها الذبائح والهدايا ،
ويرقصون حولها ويطربون ، ويقيمون لها الأعياد والاحتفالات ، وقد أضلّ بهذا الكثير
، كما قال إبراهيم داعياً ربه : ( واجنبني وبني أن نَّعبد الأصنام – رب إنهنَّ
أضللن كثيراً من النَّاس ) [ إبراهيم : 35-36 ] .
ولا تزال عبادة القبور منتشرة بين المسلمين ، يقصدونها بالدعاء والألطاف والذبائح
... وانتشرت بدعة جديدة اليوم – يضحك بها الشيطان على بني الإنسان – تلك هي نصب
الجندي المجهول ، يزعمون أنه رمز الجندي المقاتل ، ويكرمونه بالهدايا والورود
والتعظيم ، وكلما زار البلاد التي فيها مثل هذه النصب زعيم ، جاء هذا النصب وقدم
له هدية ، وكل هذا من عبادة الأنصاب ، التي هي من عمل الشيطان .
الاستقسام بالأزلام :
الأمور المستقبلية من مكنون علم الله ، ولذلك شرع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم
الاستخارة ، إذا أردنا سفراً أو زواجاً أو غير ذلك ، نرجو من الله أن يختار لنا
خير الأمور.
وأبطل الاستقسام بالأزلام ، فإن السهام والقداح لا تعلم أين الخير ولا تدريه ،
فاستشارتها خلل في العقل ، وقصور في العلم .
ومثل ذلك زجر الطير : كان من يريد سفراً ، إذا خرج من بيته ، ومرّ بطائر زجره ،
فإن تيامن ، كان سفراً ميموناً ، وإن مرّ عن شماله ، كان سفراً مشؤوماً ... ، وكل
ذلك من الضلال .
15- السحر (4) :
(75)
ومما يضل
به الشيطان أبناء آدم السحر ، فهم يعلمونهم هذا العلم ، الذي يضر ولا ينفع ، ويكون
هذا العلم سبيلاً للتفريق بين المرء وزوجه ، والتفريق بين الزوجين : يعدّه الشيطان
من أعظم الأعمال التي يقوم بها جنوده كما سبق أن ذكرنا .
قال تعالى : ( وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا يعلمون النَّاس السحر وما
أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحدٍ حتَّى يقولا إنَّما نحن
فتنةٌ فلا تكفر فيتعلَّمون منهما ما يفرقُون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به
من أحدٍ إلاَّ بإذن الله ويتعلَّمون ما يضرُّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه
ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) [ البقرة :
102 ] .
هل للسحر حقيقة ؟
اختلف العلماء في ذلك فمن قائل : إنّه تخييل لا حقيقة له : ( فإذا حبالهم وعصيُّهم
يخيَّل إليه من سحرهم أنَّها تسعى ) [ طه : 66 ] ، ومن قائل : إن له حقيقة كما دلت
عليه آية البقرة ، والصحيح أنّه نوعان : نوع هو تخييل ، يعتمد على الحيل العلمية
وخفة الحركة ، ونوع له حقيقة ، يفرق به بين المرء وزوجه ، ويؤذى به ...
سحر اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم :
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت :
" سَحَر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُريَق له لبيد بن الأعصم
، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يُخيّل إليه أنه يفعل الشي وما فعله .
حتى إذا كان ذات يوم ، أو ذات ليلة – وهو عندي ، لكنه دعا ودعا ، ثم قال : ( يا
عائشة ، أشعرتِ أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه (5) ؟ أتاني رجلان ، فقعد أحدهما
عند رأسي ، والآخر عند رجليّ .
فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب (6) . قال : ومن طبّه؟ قال :
لبيد بن الأعصم . قال : في أي شيء ؟ قال : في مُشط ومُشاطة (7) وجُفّ طلع نخلة ذكر
(8) .
قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذروان .
(76)
فأتاها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه ، فجاء فقال : ( يا عائشة ، كأن
ماءها نقاعة الحناء ، وكأنّ رؤوس نخلها رؤوس الشياطين ) .
قلت : يا رسول الله ، أفلا استخرجته ؟ قال : ( قد عافاني الله ، فكرهت أن أثير على
الناس فيه شراً ، فأمر بها فدُفنت ) (9) .
ولا يقال : إن سحر الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب له لبساً في النبوة والرسالة ؛
لأن أثر السحر لم يتجاوز ظاهر الجسم الشريف ، فلم يصل إلى القلب والعقل . فهو
كسائر الأمراض التي قد تعرض له ، والتشريع محفوظ بحفظ الله تعالى ، قال الله تعالى
: ( إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] .
16- ضعف الإنسان :
في الإنسان نقاط ضعف كثيرة ، هي في الحقيقة أمراض ، والشيطان يعمق هذه الأمراض في
نفس الإنسان ، بل تصبح مداخله إلى النفس الإنسانية ، ومن هذه الأمراض : الضعف ،
واليأس ، والقنوط ، والبطر ، والفرح ، والعجب ، والفخر ، والظلم ، والبغي ،
والجحود ، والكنود ، والعجلة ، والطيش ، والسفه ، والبخل ، والشح ، والحرص ،
والجدل ، والمراء ، والشك ، والريبة ، والجهل ، والغفلة ، واللدد في الخصومة ،
والغرور ، والادعاء الكاذب ، والهلع ، والجزع ، والمنع ، والتمرد ، والطغيان ،
وتجاوز الحدود ، وحب المال ، والافتتان بالدنيا .
فالإسلام يدعو إلى إصلاح النفس ، والتخلص من أمراضها ، وهذا يحتاج إلى جهد يبذل ،
كما يحتاج إلى صبر على مشقّات الطريق .
أمّا اتباع الهوى ، وما تميله النفس الأمارة بالسوء ، فإنه سهل ميسور ، فالأول
مثله مثل من يصعد بصخرة إلى أعلى الجبل ، ومثل الثاني كمن يهوي من أعلى الجبل إلى
أسفله ، ولذلك كانت الاستجابة للشيطان كثيرة ، وَوَجد دعاة الحق صعوبة ، وأي صعوبة
في الدعوة إلى الله تعالى .
ونحن نسوق إليك بعض كلام السلف ؛ لنوضح كيف يستغل الشيطان نقاط الضعف في الإنسان .
(77)
حكى
المعتمر بن سليمان عن أبيه أنه قال : " ذكر لي أن الشيطان الوسواس ينبعث في
قلب ابن آدم عند الحزن والفرح ، فإذا ذكر الله خنس" (10) .
وقال وهب بن منبه : " قال راهب للشيطان وقد بدا له : أي أخلاق ابن آدم أعون
لك عليهم ؟ قال : الحدّة ( صفة تعتري الإنسان كالغضب ) ، إن العبد إذا كان حديداً
، قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة " (11) .
ويذكر ابن الجوزي أيضاً عن ابن عمر : " أن نوحاً سأل الشيطان عن الخصال التي
يهلك بها الناس ، فقال : الحسد والحرص " .
وليس بعيداً عنّا ما فعله الشيطان بيوسف وإخوته ، وكيف أوغر صدور الإخوة على أخيهم
، وقد قال يوسف : ( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن
نَّزغ الشَّيطان بيني وبين إخوتي ) [ يوسف : 100 ] .
17- النساء وحب الدنيا :
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك بعده فتنة أشد على الرجال من
النساء ، ولذلك أمرت المرأة بستر جسدها كله إلا الوجه والكفين ، وأمر الرجال بغض
أبصارهم ، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة ، وأخبر أنّه ما خلا
رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما . وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح : ( المرأة
عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ) (12) .
ونحن اليوم نشاهد عظم فتنة خروج النساء كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم
كاسيات عاريات ، قامت مؤسسات في الشرق والغرب تستخدم جيوشاً من النساء والرجال
لترويج الفاحشة بالصورة المرئية ، والقصة الخليعة ، والأفلام التي تحكي الفاحشة
وتدعو لها !
أما حبّ الدنيا فهو رأس كل خطيئة ، وما سفكت الدماء ، وهتكت الأعراض ، وغصبت
الأموال ، وقطعت الأرحام ، ... إلا لأجل حيازة الدنيا ، والصراع على حطامها الفاني
، وحرصاً على متعها الزائدة .
18- الغناء والموسيقى :
(78)
الغناء
والموسيقى طريقان يفسد الشيطان بهما القلوب ، ويخرب النفوس ، يقول ابن القيم :
" ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل
والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين : سماع المكاء والتصدية ، والغناء
بالآلات المحرمة ، الذي يصد القلوب بها عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق
والعصيان ، فهو قرآن الشيطان ، والحجاب الكثيف عن الرحمن ، وهو رقية اللواط والزنى
، كاد به الشيطان النفوس المبطلة ، وحسنه لها مكراً وغروراً ، وأوحى لها الشبه
الباطلة على حسنه ، فقبلت وحيه ، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً .... " (13) .
ومن عجب أن بعض الناس ، الذين يدّعون التعبد ، يتخذون الغناء والرقص والتمايل
طريقاً للتعبد ، يتركون السماع الرحماني ، ويذهبون إلى السماع الشيطاني ، وقد عدّ
ابن القيم (14) لهذا السماع بضعة عشر اسماً : اللهو ، واللغو ، والباطل ، والزور ،
والمكاء ، والتصدية ، ورقية الزنى ، وقرآن الشياطين ، ومنبت النفاق في القلب ،
والصوت الأحمق ، والصوت الفاجر ، وصوت الشيطان ، ومزمور الشيطان ، والسمود .
وأطال النفس في بيان تحريمه ، وما فيه من زور وبهتان ، فراجعه إن شئت .
الجرس مزامير الشيطان :
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن : ( الجرس مزامير الشيطان ) . رواه مسلم في
صحيحه عن أبي هريرة (15) . ولذا فإن الملائكة ( لا تصحب رفقة فيها كلب ولا جرس ) .
رواه مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة (16) .
19- تهاون المسلمين في تحقيق ما أمروا به :
إذا التزم المسلم بإسلامه فإن الشيطان لا يجد سبيلاً لإضلاله والعبث به ، فإذا
تهاون وتكاسل في بعض الأمور ، فإن الشيطان يجد فرصة ، قال تعالى : ( يا أيَّها
الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم
عدوٌ مُّبينٌ ) [البقرة :208] .
(79)
فالدخول
في الإسلام في كل الأمور هو الذي يخلص من الشيطان ، فمثلاً إذا كانت صفوف المصلين
مرصوصة ، فإن الشياطين لا تستطيع أن تتخلل المصلين ، فإذا تُركت فُرجٌ بين الصفوف
، فإن الشياطين تتراقص بين صفوف المصلين ؛ ففي الحديث : ( أقيموا صفوفكم ، لا
تتخللكم الشياطين كأنّها أولاد الحَذَف ) . قيل يا رسول الله : وما أولاد الحذف ؟
قال : ( سود جُرد بأرض اليمن ) . رواه أحمد والحاكم بإسناد صحيح (17) .
وفي الحديث الآخر : ( أقيموا صفوفكم ، وتراصوا ، فوالذي نفسي بيده ، إني لأرى
الشيطان بين صفوفكم كأنها غنم عُفْر ) . رواه أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح (18)
.
--------------------------------
(1) رواه البيهقي ، وصحح ابن كثير إسناده .
(2) راجع : الدر المنثور ، للسيوطي :3/158 .
(3) راجع روايات الحديث في الدر المنثور : 7/545 .
(4) بسط القول في السحر في مؤلف مستقل أ.د.عمر الأشقر عنون له بعنوان : عالم السحر
والشعوذة .
(5) أي أجابني فيما طلبته .
(6) أي مسحور .
(7) المشاطة : شعر سقط من الرأس بعد تسريحه .
(8) جف طلع نخلة ، أي : غشاء الطلع .
(9) صحيح البخاري : 10/221 . ورقمه : 5763 .
(10) تفسير ابن كثير : 17/423 .
(11) تلبيس إبليس : 42 .
(12) صحيح سنن الترمذي : 1/343 . ورقمه : 936 . وقوله : استشرفها ، أي : زينها في
نظر الرجال .
(13) إغاثة اللهفان : 1/242 .
(14) إغاثة اللهفان : 1/256 .
(15) صحيح مسلم : 3/1672 . ورقمه : 2114 .
(16) صحيح مسلم : 3/1672 . ورقمه : 2113 .
(17) صحيح الجامع : 1/384 . وأولاد الحَذف : الغنم الصغار ، والمراد الشياطين ،
فإنها تدخل في أوساط الصفوف كأولاد الحذف . جُرد ، أي : ليس على جلدها شعر .
(18) صحيح الجامع : 1/384 .
كيف يصل الشيطان بوسوسته إلى نفس الإنسان
المطلب الأول
الوسوسة
(80)
الشيطان
يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا ندركها ، ولا نعرفها ، يساعده على
ذلك طبيعته التي خلق عليها ، وهذا هو الذي نسميه بالوسوسة ، وقد أخبرنا الله بذلك
إذ سماه : ( الوسواس الخنَّاس – الَّذي يوسوس في صدور النَّاس ) [الناس : 4-5] .
قال ابن كثير في تفسيره : ( الوسواس الخنَّاس ) : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ،
فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خنس .
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الشيطان يجري
من ابن آدم مجرى الدم ) (1) .
وبهذه الوسوسة أضل آدم وأغواه بالأكل من الشجرة : ( فوسوس إليه الشَّيطان قال يا
آدم هل أدلُّك على شجرةٍ الخلد وملكٍ لا يبلى ) [ طه : 120 ] .
وقد تتمثل الشياطين في صورة بشر ، وقد يحدّثون الإنسان ، ويُسمِعونه ، ويأمرونه ،
وينهونه ، بمرادهم ... كما سيأتي بيانه .
--------------------------------
(1) مشكاة المصابيح : 1/26 . ورقمه : 68 .
المطلب الثاني
تمثل الشياطين
أحياناً تأتي الشياطين لا بطريق الوسوسة ؛ بل تتراءى له في صورة إنسان ، وقد يسمع
الصوت ، ولا يرى الجسم ، وقد تتشكل بصور غريبة ... وهي أحياناً تأتي الناس وتعرفهم
بأنها من الجن ، وفي بعض الأحيان تكذب في قولها ، فتزعم أنها من الملائكة ،
وأحياناً تسمي نفسها برجال الغيب ، أو تدعي أنها من عالم الأرواح ....
وهي في كل ذلك تحدث بعض الناس ، وتخبرهم بالكلام المباشر ، أو بوساطة شخص منهم
يسمى الوسيط ، تتلبس وتتحدث على لسانه ، وقد تكون الإجابة بوساطة الكتابة ...
وقد تقوم بأكثر من ذلك ، فتحمل الإنسان ، وتطير به في الهواء ، وتنقله من مكان إلى
مكان ، وقد تأتي له بأشياء يطلبها ، ولكنها لا تفعل هذا إلا بالضالين ، الذين
يكفرون بالله ربّ الأرض والسماوات ، أو يفعلون المنكرات والموبقات ....
(81)
وقد
يتظاهر هؤلاء بالصلاح والتقوى ، ولكنهم في حقيقة أمرهم من أضلّ الناس وأفسقهم ،
وقد ذكر القدامى والمحدثون من هذا شيئاً كثيراً ، لا مجال لتكذيبه والطعن فيه ؛
لبلوغه مبلغ التواتر .
فمن ذلك ما ذكره ابن تيمية عن الحلاج قال : " وكان صاحب سيمياء وشياطين تخدمه
أحياناً ، كانوا معه ( بعض أتباعه ) على جبل أبي قبيس ، فطلبوا منه حلاوة ، فذهب
إلى مكان قريب ، وجاء بصحن حلوى ، فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان حلاوي
باليمن ، حمله شيطان تلك البقعة " .
قال : " ومثل هذا يحدث كثيراً لغير الحلاج ممن له حال شيطاني ، ونح نعرف
كثيراً من هؤلاء في زمننا وغير زمننا ، مثل شخص هو الآن ( في زمن ابن تيمية )
بدمشق ، كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق ، فيجيء من الهواء
إلى طاقة البيت ، فيدخل وهم يرونه ، ويجيء بالليل على باب الصغير ( باب من أبواب
دمشق الستة التي كانت يومئذ ) ، فيعبر منه هو ورفيقه ، وهو من أفجر الناس .
وآخر كان بالشوبك ( قلعة حصينة في أطراف الشام ) من قرية يقال لها : الشاهدة ،
يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه ، وكان شيطان يحمله ، وكان يقطع
الطريق.
وأكثرهم شيوخ الشرّ ، يقال لأحدهم : ( البوشي أبي المجيب ) ينصبون له خركاه في
ليلة مظلمة ، ويصنعون خبزاً على سبيل القربات ، فلا يذكرون الله ، ولا كتاب فيه
ذكر الله ، ثم يصعد ذلك البوشي في الهواء وهم يرونه ، ويسمعون خطابه للشيطان ،
وخطاب الشيطان له . ومن ضحك أو سرق من الخبز ضربه الدف ، ولا يرون من يضرب به .
ثم إن الشيطان يخبرهم ببعض ما يسألونه عنه ، ويأمرهم بأن يقربوا له بقراً وخيلاً
وغير ذلك ، وأن يخنقوها خنقاً ، ولا يذكرون اسم الله عليها ، فإذا فعلوا قضى
حاجتهم " .
(82)
ويذكر
ابن تيمية أيضاً عن " شيخ أخبر عن نفسه أنه كان يزني بالنساء ويتلوط الصبيان
، وكان يقول : يأتيني كلب أسود بين عينيه نكتتان بيضاوان ، فيقول لي : فلان ابن
فلان نذر لك نذراً ، وغداً نأتيك به ، فيصبح ذلك الشخص يأتيه بذلك النذر ، ويكاشفه
هذا الشيخ الكافر " .
ويذكر عن هذا الشيخ أنه قال : " وكنت إذا طلب مني تغيير مثل ( اللادن ) (صمغ
يستعمل عطراً ودواء) أقول : حتى أغيب عن عقلي ، وإذا باللادن في يدي أو في فمي ،
وأنا لا أدري من وضعه .
قال : وكنت أمشي وبين يدي عمود أسود عليه نور .
قال : فلما تاب هذا الشيخ ، وصار يصلي ويصوم ، ويجتنب المحارم ، ذهب الكلب ، وذهب
التغيير ، فلا يأتي باللادن ولا غيره .
ويحكى عن شيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس ، فيأتي أهل ذلك المصروع
إلى الشيخ يطلبون إبراءَه ، فيرسل إلى أتباعه ، فيفارقون ذلك المصروع ، ويعطون
الشيخ دراهم كثيرة ، وكان أحياناً تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس ، حتى
إن بعض الناس كان له تين في كوارة ، فيطلب الشيخ من شياطينه تيناً فيحضرونه له ،
فيطلب أصحاب الكوارة التين ، فيجدونه قد ذهب .
ويذكر عن آخر أنه كان مشتغلاً بالعلم فجاءَته الشياطين وأغوته ، وقالوا له : نحن
نسقط عنك الصلاة ، ونحضر لك ما تريد ، فكانوا يأتونه بالحلوى ، حتى حضر عند بعض
الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه ، وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك
المفتون بالشيطان " (1) .
وبين شيخ الإسلام بعض طرق الشيطان في الإغواء ، فقال (2) : " أنا أعرف من
تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع ، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها ،
وأعرف من يخاطبهم الشجر والحجر ، وتقول : هنيئاً لك يا ولي الله ، فيقرأ آية
الكرسي فيذهب ذلك ، وأعرف من يقصد صيد الطير ، فتخاطبه العصافير وغيرها ، وتقول :
خذني حتى يأكلني الفقراء ، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنسان ويخاطبه
بذلك .
(83)
ومنهم من
يكون في البيت وهو مغلق ، فيرى نفسه خارجه ، وهو لم يفتح ، وبالعكس ، وكذلك في
أبواب المدينة ، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة يتصورون بصورة صاحبه ، فإذا
قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله " .
ويقول رحمه الله : " وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له : أنا من أمر الله ،
ويعده بأنه المهدي الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويظهر له الخوارق ،
مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء ، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير
أو الجراد يميناً أو شمالاً ذهب حيث أراد ، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي ، أو
نومه ، أو ذهابه ، حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر ، وتحمله إلى مكة وتأتي
به ، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة ، وتقول له : هؤلاء الملائكة الكروبيون جاؤوا
لزيارتك ، فيقول في نفسه : كيف تصوروا بصورة المردان ؟ ! فيرفع رأسه فيجدهم بلحى ،
ويقولون له : علامة أنك المهدي أنك تنبت في جسدك شامة ، فتنبت ويراها ، وغير ذلك ،
وكله من مكر الشيطان " (3) .
وبين رحمه الله " أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه
الشرعي ، ولهم أحياناً مكاشفات وتأثيرات ، يأوون كثيراً إلى مواضع الشياطين التي
نُهي عن الصلاة فيها ؛ لأن الشياطين تتنزل عليهم بها ، وتخاطبهم الشياطين ببعض
الأمور كما تخاطب الكهان ، وكما كانت تدخل في الأصنام ، وتكلم عابدي الأصنام ،
وتعينهم في بعض المطالب كما تعين السحرة ، وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس
والقمر والكواكب ، إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها ، من تسبيح لها
ولباس وبخور وغير ذلك ؛ فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب ، وقد
تقضي بعض حوائجهم " (4) .
الذين تخدمهم الشياطين يتقربون إليها بالمعاصي :
(84)
هؤلاء
الذين يزعمون الولاية – والحقيقة أن الشياطين تخدمهم – لا بدّ أن يتقربوا إلى
الشياطين بما تحبه من الكفر والشرك ؛ كي يقضوا بعض أغراضه ، ويذكر ابن تيمية (5) :
أن كثيراً من هؤلاء يكتبون كلام الله بالنجاسة ، وقد يقلبون حروف كلام الله عزّ
وجلّ ، إمّا حروف الفاتحة ، وإما حروف ( قل هو الله أحد ) ، وإما غيرهما – ويذكر
أنهم قد يكتبون كلام الله بالدم أو بغيره من النجاسات ، وقد يكتبون غير ذلك مما يرضاه
الشيطان ، أو يتكلمون بذلك .
فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين ، أعانتهم على بعض أغراضهم : إما تغوير ماء
من المياه ، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة ، وإما أن يأتيه بمال من
أموال بعض الناس ، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ، ومن لم يذكر اسم الله
عليه ، وتأتي به ، وإما غير ذلك .
رجال الغيب :
يذكر شارح الطحاوية : " أن من الشياطين ما يسميه الناس رجال الغيب ، وأن بعض
الناس يخاطبونهم ،وتحصل لهؤلاء خوارق يزعمون بها أنهم أولياء الله ، وأن بعض هؤلاء
يعين المشركين على المسلمين ، ويقول : إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين
، لكون المسلمين عَصَوْا " .
ويعقب شارح الطحاوية على ذلك قائلاً : " هؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين ،
وذكر أنّ الناس من أهل العلم في رجال الغيب ثلاثة أحزاب :
1- حزب يكذبون بوجود رجال الغيب ، ولكن قد عاينهم الناس ، وثبت عمن عاينهم ، أو
حدثه الثقات بما رأوه ، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم ، خضعوا لهم .
2- وحزب عرفوهم ، ورجعوا إلى القدر ، واعتقدوا أن ثَمّ في الباطن طريقاً إلى الله
غير طريقة الأنبياء .
3- وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول ، فقالوا : يكون الرسول
هو محمداً للطائفتين . فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه " .
(85)
ثم قال
مبيناً حقيقة هؤلاء وأتباعهم : " والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين ، وأن
رجال الغيب هم الجن ، ويسمون رجالاً ، كما قال تعالى : ( وأنَّه كان رجالٌ من
الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً ) [ الجن : 6 ] ، وإلا فالإنس يؤنسون ،
أي يشهدون ويرون ، وإنما يحتجب الإنس أحياناً ، لا يكون دائم الاحتجاب عن أبصار
الإنس ، ومن ظنهم من الإنس فمن غلطه وجهله " .
ثم بين أن السبب في الاختلاف فيهم وفي افتراق هذه الأحزاب الثلاثة عدم الفرقان بين
أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ، وبيّن أنه يجب عرض أفعال الناس وأقوالهم وحالهم
على الكتاب والسنة ، فما وافقهما كان صالحاً ،وما خالفهما كان غالطاً ، ومهما فعل
الإنسان وتبدى من حاله لا يكون مؤمناً ولا ولياً لله – وإن طار في الهواء ، ومشى
على الماء ما لم يكن ملتزماً بالكتاب والسنة (6) .
فلا بد أن يكون عند العبد الميزان الذي يفرق به بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
، والصالحين والطالحين ، وإلا ضّل وزاغ ، وظن أعداء الله أولياءَه ، هذا الميزان
هو الكتاب والسنة ، فإذا كان العبد ملتزماً بهما فنعم ، وإلا فإنّه ليس على شيء ،
ولو رأيناه يحي الأموات ، ويحول المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة .
يقول ابن تيمية : " ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية اشتبه عليه
الحق بالباطل ، ومن لم ينوّر الله قلبه بحقائق الإيمان واتباع القرآن ، لم يعرف
طريق المحق من المبطل ، والتبس عليه الأمر والحال ، كما التبس على الناس حال
مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء وإنما هم كذابون
" (7) .
وقد ألف ابن تيمية كتاباً عظيماً ، إذا عرفته ، تبين لك الفارق الكبير بين أولياء
الرحمن وأولياء الشيطان بحيث لا يشتبه عليك بعد ذلك أمر أولياء الشيطان ، وقد
أسماه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " .
لا تسخر الجن لأحد بعد نبي الله سليمان :
(86)
استجاب
الله لنبيه سليمان ، ووهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فإذا حصل طاعة من الجن
لأحد من الإنس ، فلا يكون على سبيل التسخير ، وإنما برضى الجني ، وهل يجوز ذلك ؟
يقول ابن تيمية (8) : " الجن مع الإنس على أحوال : فمن كان من الإنس يأمر
الجن بما أمر الله به ورسله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ، ويأمر الإنس بذلك ،
فهذا من أفضل أولياء الله تعالى ، وهو في ذلك من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم
ونوابه .
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له ، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له ،
وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم ، وينهاهم عما حرّم عليهم ، ويستعملهم في مباحات له
، فيكون بمنزلة الملوك ، الذين يفعلون مثل ذلك ، وهذا إذا قدّر أنه من أولياء الله
، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول ، كسليمان
ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ومن كان يستعمل الجنّ فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك ، وإما في قتل معصوم
الدم ، أو في العدوان عليهم بغير القتل ، كتمريضه وإنسائه العلم ، وغير ذلك من
الظلم ، وإما في فاحشة ، كجلب من يطلب منه الفاحشة ، فهذا قد استعان بهم على الإثم
والعدوان ، ثمّ إن استعان بهم على الكفر فهو كافر ، وإن استعان بهم على المعاصي
فهو عاص : إما فاسق ، وإما مذنب غير فاسق .
وإن لم يكن تام العلم بالشريعة ، فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات ، مثل أن
يستعين بهم على الحج ، أو يطيروا به عند السماع البدعي ، أو أن يحملوه إلى عرفات ،
ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله ، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ،
ونحو ذلك ، فهذا مغرور قد مكروا به " .
--------------------------------
(1) جامع الرسائل لابن تيمية : ص190-194 .
(2) مجموع الفتاوى : 11/300 .
(3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام : 11/300 .
(4) مجموع الفتاوى : 19/41 .
(87)
(5)
مجموع الفتاوى : 19/35 .
(6) شرح العقيدة الطحاوية : 571-572 .
(7) جامع الرسائل : ص197 .
(8) مجموع الفتاوى : 11/307 .
المطلب الثالث
تحضير الأرواح
انتشر في عصرنا القول بتحضير الأرواح ، وصدّق بهذه الفِرية كثير من الذين يعدّهم
الناس عقلاء وعلماء .
وتحضير الأرواح المزعوم سبيله ليس واحداً ، فمنه ما هو كذب صراح ، يستعمل فيه
الإيحاء النفسي ، والمؤثرات المختلفة ، والحيل العلمية ، ومنه ما هو استخدام للجنّ
والشياطين .
وقد كشف الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين في كتابه ( الروحية الحديثة ) كثيراً من
خداع هؤلاء وتزويرهم للحقيقة ، فهم لا يجرون تجاربهم كلها إلا في ضوء أحمر خافت ،
هو أقرب إلى الظلام ، وظواهر التجسيد ، والصوت المباشر ، ونقل الأجسام ، وتحريكها
تجرى في الظلام الدامس ، ولا يستطيع المراقب أن يتبين مواضع الجالسين ، ولا مصدر
الصوت ، ولا يستطيع كذلك أن يميز شيئاً من تفاصيل المكان ، كجدرانه أو أبوابه أو
نوافذه .
وتكلم الدكتور محمد عن ( الخباء ) وهو حجرة جانبية معزولة عن الحاضرين أو جزء من
الحجرة التي يجلسون فيها تفصل بحجاب كثيف ، وهذا المكان المنفصل معدّ لجلوس الوسيط
الذي تجرى على يديه ظواهر التجسد المزعوم . ومن هذا المكان المحجوب بستار يضاف إلى
حجاب الظلام السابق تخرج الأرواح المزعومة متجسدة ، وإليه تعود بعد قليل ، ولا
يسمح للحاضرين بلمس الأشباح .
ويرى الدكتور أن الروحيين لا يعْدِمون في مثل هذا الجو المظلم قوالب علمية يصبون
فيها حيلهم .
(88)
والتدليس
على الناس بالحيل طريقة قديمة معروفة ، يضلّ بها شياطين الإنس عباد الله ، يطلبون
الوجاهة عند الناس ، كما يطلبون مالهم ، فقد ذكر ابن تيمية (1) عن فرقة في عصره
كانت تسمى ( البطائحية ) : أنهم كانوا يدّعون علم الغيب والمكاشفة ، كما يدعون
أنهم يرون الناس رجال الغيب ، ثم كشف شيئاً من دجلهم ، فقد كانوا يرسلون بعض
النساء إلى بعض البيوت يستخبرون عن أحوال أهلها الباطنة ، ثم يكاشفون صاحب البيت
بما علموه ، زاعمين أن هذا من الأمور التي اختصوا بالاطلاع عليها .
ووعدوا رجلاً – كانوا يمنونه بالملك – أن يروه رجال الغيب ، فصنعوا خشباً طوالاً ،
وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج ، فجعلوا يمشون على جبل المزة ،
وذلك المخدوع ينظر من بعيد ، فيرى قوماً يطوفون على جبل ، وهم يرتفعون عن الأرض ،
وأخذوا منه مالاً كثيراً ، ثم انكشف له أمرهم .
ودلسوا على آخر كان يدعى (قفجق) ، إذ أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم ، وأوهموه أن
الموتى تتكلم ؛ وأتوا به إلى مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الشعراني الذي
بجبل لبنان ، ولم يقربوه منه ، بل من بعيد ، لتعود عليه بركته ، وقالوا : إنه طلب
منه جملة من المال ، فقال (قفجق) : الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا
كله ، وتقرب قفجق ، وجذب الشعر ، فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز
.
وقد بين الدكتور محمد محمد حسين أن الوسيط – وهو شخص يزعم أهل هذا المذهب الروحيون
أن فيه استعداداً فطرياً يؤهله لأن يكون أداة يجري عن طريقها التواصل – غالباً ما
يكون دجالاً كبيراً ، وغشاشاً مدلساً ، وبين كيف أن كثيراً من هؤلاء الوسطاء لا
يكون على خلق ولا دين ، بل إن الروحانيين لا يشترطون في الوسيط شيئاً من ذلك ، وقد
ذكر حادثة جرت معه شخصياً تبين له بعد تحقيق منه في الموضوع أن الوسيط كان دجالاً
كاذباً .
(89)
وبين كيف
أن بعض الحضور يكونون متواطئين مع المحضرين ، وكيف يحترس في انتقاء الذين يسمح لهم
بحضور مثل هذه الجلسات ، وكيف يعللون إخفاقهم إذا وجد في الحضور بعض الأذكياء
النبهاء .
وقد أفاض الدكتور محمد محمد حسين في الكشف عن الطريق الأولى التي يزعم الروحانيون
أنهم يحضرون بها الأرواح ، وهي طريق الدجل والكذب ، واستعمال المؤثرات النفسية والحيل
العلمية .
وأشار مجرد إشارة إلى الطريق الثانية وهي استخدام الجن ، وأرى أن غالب الدعوات
التي يزعم أصحابها تحضير الأرواح هي من هذا القبيل .
تحضير الأرواح دعوة قديمة :
دعوى تحضير الأرواح ليست جديدة ، بل هي قديمة ، وقديمة جداً ، وقد نقلنا فيما سبق
كيف كان بعض الناس يتصلون بالجن ، بل حفظت لنا كتب الثقات أن بعض الناس كانوا
يزعمون أن أرواح الموتى تعود إلى الحياة بعد الموت ، يقول ابن تيمية : " ومن
هؤلاء ( أي أهل الحال الشيطاني من الكفرة والمشركين والسحرة ونحوهم ) من إذا مات
لهم ميت يعتقدون أنه يجيء بعد الموت يكلمهم ، ويقضي ديونه ، ويرد ودائعه ، ويوصيهم
بوصايا ، فإنهم يأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة ، وهو شيطان تمثل في صورته
، فيظنونه إياه " (2) .
تجربة معاصرة :
هذه تجربة حصلت مع الكاتب أحمد عز الدين البيانوني ، ذكرها في كتاب الإيمان
بالملائكة ، حرصت على نقلها بنصها في هذا الموضوع يقول الكاتب :
" لقد شغل ( استحضار الأرواح ) المزعوم أفكار الناس في الشرق والغرب ، فكُتبت
فيه مقالات ، بلغات مختلفات ، نُشرت في مجلات عربية وغير عربية ، وألفت فيه مؤلفات
، وبحث فيه باحثون ، وجربه مجربون ، اهتدى بعد ذلك العقلاء منهم إلى أنه كذب
وبهتان ، ودعوة إلى كفر وطغيان .
إن استحضار الأرواح ، الذي يزعمه الزاعمون ، كذبٌ ودجل وخداع ، وما الأرواح
المزعومة إلا شياطين تتلاعب بالإنسان ، وتخادعه .
(90)
وليس في
استطاعة أحد أن يستحضر روح أحد ؛ فالأرواح بعد أن تفارق الأجساد ، تصير إلى عالم
البرزخ .
ثم هي إما في نعيم وإما في عذاب ، وهي في شغل شاغل عما يدعيه مستحضرو الأرواح .
وقد دُعيتُ أنا إلى ذلك ، من قبل هذه الأرواح ، وجربته بنفسي تجربة طويلة ، وظهر
لي أنه كذب ودجل وخداع ، علي أيدي شياطين تتلاعب ، غرضهم من ذلك تضليل الناس
وخداعهم ، وموالاة من يواليهم .... " .
بدء التجربة :
ويتابع أحمد عزّ الدين كلامه قائلاً :
" عرفت منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً رجلاً ، يزعم أنه يستخدم الجن في أمور
صالحة في خدمة الإنسان ، وذلك بوساطة وسيط من البشر .
ويزعم أنه توصّل إلى ذلك بتلاوات وأذكار طويلة ، قضى فيها زمناً طويلاً ، دلّه
عليها بعض من يزعم أنه على معرفة بهذا العلم !
جاءني الوسيط ذات يوم يبلغني دعوة فلانٍ وفلانة من الجن ، لحديث هامّ ، لي فيه شأن
عظيم .
فذهبت في الموعد المحدد ، متوكلاً على الله ، فرحاً بذلك ، لأطلع في هذه التجربة
على جديد " .
كيف بدأت المخادعة ؟
" من أول أساليب الخداع التي سُلكت معي ، أن طريقة الاستحضار ، استغفار
وتهليل وأذكار ، مما يجعل الإنسان لأول وهلة ، يظن أنه يتحدث مع أرواح علوية صادقة
طاهرة .
دخلت بيت الوسيط ، وخلونا معاً في غرفة ، وجلس هو على فراش ، وبدأنا – بدلالته
طبعاً نستغفر ونهلل – حتى أخذته إغفاءة ، فَأضجعته أنا على فراشه ، وسجيته بغطاء ،
كما علمني أن أفعل ، وإذا بصوت خافت ، يسلم صاحبه عليّ ، ويظهر حفاوته بي وحبه ،
ويعرفني بنفسه ، إنه مخلوق ، يزعم أنه ليس من الملائكة ، ولا من الجنّ ، ولكنه خلق
آخر ، من نوع آخر ، وُجد بقوله تعالى " كن " فكان .
وهذا على زعمه أنّ الجن لا يصدرون إلا عن أمره ، وأن بينه وبين الله تعالى في تلقي
الأوامر خمس وسائط فقط ، خامسهم جبريل عليه السلام .
(91)
وأخذ
يثني عليّ ، ويقول : إنهم سيقطعون كل علاقة لهم بالبشر ، وسيكتفون بلقائي ، لأني
على زعمهم صاحب الخصوصية في هذا العصر ، وموضع العناية من الله تعالى ، وأن الله
تعالى هو الذي اختارني لذلك .
ووعدني بوعود رائعة ، فيها العجب العجاب .
واستسلمت لهذه التجربة الجديدة ، والدعوة الخادعة ، متوكلاً على الله عزّ وجلّ ،
سائلاً الله تعالى أن يعصمني من الزلل ، وأن يهديني إلى الحقّ المبين ، مستضيئاً
بنور العلم ، سالكاً سبيل الاستقامة ، والحمد لله تعالى .
ولما انقضى اللقاء الأول ، دعاني إلى لقاء آخر ، في موعد آخر ، ثم دلني هو نفسه
على تلاوة خاصة ؛ لإيقاظ الوسيط من غيبوبته .
وكان ذلك ، وجلس الوسيط ، وعرك عينيه ، كأنه انتبه من نوم عميق ، ولا علم له بشيء
مما جرى .
ورجعت في الموعد المحدد أيضاً ، وتم بيننا بعد لقاءات مدة طويلة ، وفي كل لقاء ،
تتجدد الوعود الحسنة ، ويوصف لي المستقبل الرائع الذي ينتظرني ، والنفع العظيم
الذي تلقاه الأمة على يديّ .
تطور الموضوع :
وتطور الأمر ، فأخذ كثير من الأرواح يزورونني في كل لقاء ، بمقدمات من الأذكار ،
وبغير مقدمات ، فقد أكون مع الوسيط على طعام ، أو على تناول كأس من الشاي ، فتأخذه
الإغفاءة المعهودة ، فيميل رأسه إلى الأمام ، وتلتصق ذقنه بصدره ، ويحدثني الزائر
الذي يزعم أنه من الملائكة ، أو من الجن ، أو من الصحابة ، أو من الأولياء ،
حديثاً يغلب عليه طابع الاحترام والإجلال ، والتبرك بزيارتي ، وتبشيري بالمستقبل
الزاهر المبارك ، ثم ينصرف ، ويجيء غيره وغيره ... " .
من الزائرون ؟
(92)
"
زارني فيما زعموا أفراد من الملائكة ، وأفراد من الجن ، وأبو هريرة رضي الله عنه
من الصحابة ، وطائفة من الأولياء ، أمثال أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه ، وطائفة
من أهل العلم والفضل ، المشهود لهم بالعلم والولاية ، أمثال الشيخ أحمد الترمانيني
رحمه الله تعالى ، وبعض من أدركتهم من أهل العلم والفضل ، ثم أدركتهم الوفاة ، ومنهم
والدي رحمه الله تعالى .
وبشروني بزيارة والدي إياي ، في وقت عينوه ، وانتظرت الموعد بلهف ، ولما كان
الموعد المنتظر ، كلفوني أن أقرأ سورة (( الواقعة )) جهراً ، فقرأتها ، ولما فرغت
من قراءَتها ، قالوا :
سيحضر والدك بعد لحظات ، فاسمع ما يقول ، ولا تسأله عن شيء !!! " .
بدء انتباهي :
" وبعد دقائق جاءني ، جاء من يزعم أنه أبي ، فسلم علي ، وأظهر سروره بلقائي ،
وفرحه بي على صلتي بهذه الأرواح ، وأوصاني أن أعتني بالوسيط وأهله ! وأن أرعاه
رعاية عطف وإحسان ، إذ لا مورد له من المال إلا من هذا الطريق .
وختم حديثه بالصلاة الإبراهيمية ، وأنا أعلم أنه رحمه الله تعالى ، كان شديد الولع
بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما الإبراهيمية .
وكان من العجب أن لهجة المتحدث شبيهة إلى حدّ ما بلهجة الوالد . ثم سلم وانصرف .
وأخذت أتسائل في نفسي : لم أوصوني أن لا أسأله عن شيء ؟ !
في الأمر سر ولا شك !
السر الخفي الذي انكشف لي آنذاك ، أنه ليس بوالدي ، ولكنه قرينه من الجن ، الذي
صحبه مدة حياته ، فجاءني يمثل لي صوته ، ويتشبه بخصوصية من خصوصياته .
أوصوني أن لا أسأله عن شيء ؛ لأن القرين من الجن ، مهما عرف من شأن والدي وحفظ من
أحواله ، فلن يستطيع أن يحفظ كل جزئية يعرفها الولد من أبيه ، فحذروا أن أسأله عن
شيء من ذلك ، فلا يجيبني ، فيفتضح الأمر .
ثم سلكوا معي في لقائي مع الآخرين ، أن لا يعرفوني بأسمائهم إلا عند انصرافهم ،
فيقول أحدهم : أنا فلان ، ويسلم ، وينصرف على الفور .
(93)
وفي ذلك
من السر ما ذكرت : فلو أخبرني واحد منهم عن نفسه ، وهو مشهود له بالعلم ، فبحثت
معه في إشكال علمي ، لعجز عن الجواب ، وانكشف الأمر .
وقد أتاني آتٍ مرة يناقشني في إباحة كشف وجه المرأة ، وأنه ليس بعورة ، فرددت عليه
، ورد عليّ رداً ليس فيه رائحة العلم ، واحتدم الجدال بيننا .
فقلت له : وماذا تجيب عن أقوال الفقهاء الذي قالوا :
إن وجه المرأة عورة ، أو يجب ستره خشية الفتنة ؟
وانتهى الجدال إلى غير جدوى ، ثم أخبرني أنه الشيخ أحمد الترمانيني ، وانصرف .
فانكشف لي أنه الكذب لا شك فيه ، لأن الشيخ المذكور من كبار فقهاء الشافعية ،
والسادة الشافعية يقولون : المرأة كلها عورة ، ولو عجوزاً شمطاء .
فلو أنه كان هو الشيخ المذكور ، وانكشف له من العلم جديد ، وهو في عالم البرزخ ،
لأخبرني بذلك ، وأرشدني إلى دليله .
ولكنه الكذب والخداع ، وإرادة التضليل . وأبى الله تعالى – والحمد لله – إلا هداي
، وثباتي على الحق والهدى .
فكشفُ المرأة وجهها ، ولا سيما في هذا الزمان الفاسد والمجتمع المريض ، أمر لا
يُقره ذو عقل ودين " .
انكشاف الحقيقة !
" ولم تزل تنكشف لي الحقيقة على وجهها مرة بعد مرة ، وفي تجربة بعد تجربة ،
حتى تحقق عندي أن الأمر كله كذب وبهتان ، ودجل وطغيان ، لا أساس له من تقوى ، ولا
قائمة له على دين .
فالوسيط الذي يعتنون بشأنه ، ويوصون بحسن رعايته وإكرامه ، تارك صلاة ، ولا
يأمرونه بها .
وهو يحلق لحيته ، ولا يأمرونه بإِطلاقها .
ثم هو يأكل أموال الناس بالباطل ، وبالوعود الخادعة ، ولا مورد له إلا من هذا
الطريق الخبيث .
جاءني رجل بعدما عرف صلتي بهذا الوسيط ، يشكو إليّ أنه خدعه ، فأخذ منه ثلاثمائة
ليرة سورية ، وهو فقير ، وفي أشد الحاجة إليها .
فألزمت الوسيط بردّها إليه ، فاستجاب لذلك حرصاً منه ومن شياطينه على بقاء صلتي
بهم .
والوسيط وأسرته تقوم حياتهم على الكذب في أكثر شؤونهم ) .
الخاتمة :
(94)
وختم
الشيخ أحمد عز الدين كلامه على هذه التجربة بقوله :
" حاولت هذه الأرواح بعدما انكشف لي أمرها أن تسلك معي مسلك التهديد ، فلم
يزلزل ذلك من قلبي شيئاً ، والحمد لله .
وقد كنت كتبت في هذه المدة الطويلة مما حدثوني به ما ملأ دفترين كبيرين ، جمعت
فيهما أكثر ما حدثوني به .
ولما ظهر الباطل ظهوراً لا يحتمل التأويل ، قطعت الصلة بهم ، وحكمت عليهم بما حكمت
، وأحرقت الدفترين اللذين امتلأا بالكذب والخداع .
فهذه الأرواح التي تدّعي أنها أرواح رجال من الصحابة والأولياء والصالحين ، كلها
شياطين ، لا ينبغي لمؤمن عاقل أن ينخدع بها .
وجميع الصور التي اعتادها مستحضرو الأرواح كذب وباطل .
سواء في ذلك طريقة الوسيط التي ذكرتها وجربتها ، وطريقة المنضدة والفناجين التي
ذكرها لي بعض من جربها ، ووصل إلى النتيجة التي وصلت إليها .
ومن عجيب الأمر أني قرأت بعد ذلك كتباً مؤلفةً في هذا الموضوع ، فإذا بالمجربين
العاقلين وصولوا إلى مثل ما وصلت إليه ، وحكموا على تلك الأرواح ، أنها قرناء بني
آدم من الجن ، كما هداني الله تعالى إلى ذلك من قبل ، والحمد لله .
وقد أديت بكلمتي هذه النصح الواجب ، والله الهادي والموفق " .
خطر هذه الدعوات :
هذه الدعوات التي تزعم أن بإمكانها تحضير الأرواح اتخذها شياطين الجن والإنس
سبيلاً لإفساد الدين ، فهذه الأرواح التي تُحضّر ، وهي في الحقيقة شياطين تتكلم
بكلام يحطم الدين وينسفه ، وتقر مبادئ ومثلاً جديدة تعارض الحق كل المعارضة ، ففي
واحدة من هذه الجلسات زعمت الروح ( الشيطان ) على لسان الوسيط أن جبريل قد حضر هذه
الجلسة ، ولما كان الحضور لا يعرفون جبريل قالت : " ألا تعرفون جبريل الذي
كان ينزل بالقرآن على محمد ؟ ! إنه يبارك هذا الاجتماع " .
(95)
وينقل
الدكتور محمد محمد حسين عن مجلة ( عالم الروح ) من مقال لها بعنوان (حديث الروح
الكبير هوايت هوك) ما يأتي : ( يجب أن نتحد في هذه الحركة ، في هذا الدين الجديد ،
يجب أن تسودنا المحبة ، ويجب أن تكون لنا قدرة على الاحتمال والتفاهم ...
رسالتي ( المتحدث هنا الروح أي الشيطان ) أي أواسي المحروم ، وأساعد الإنسان على
تحرره في نفسه من الله تعالى ، ( وصدق وهو كذوب فهذه رسالته ، أي يجعله يكفر بالله
) الإنسان إله مكسو بعناصر الأرض (هكذا ينفخ في الإنسان ، ويكذب عليه ليضله) ، وهو
لن يدرك ما في مقدوره ما لم يحس بجزئه الملائكي الإلهي ... ، الروحية ستكون أقدر
من غيرها على تأسيس دين جديد واسع للعالم كله " .
وينقل عن هذه المجلة أيضاً تعريفاً بالمنظمة التي أسست لهذه الغاية " إن هذه
المنظمة ستكون لكل البشرية ، وعن طريقها سوف يوضح لنا سكان العالم الروحي طريقة
جديدة للحياة ، ويعطوننا فكرة جديدة عن الله ومشيئته ، إنهم سوف يأتون لنا بالسلام
والطمأنينة الروحية وبسعادة النفس والقلب ، سوف يحطمون الحواجز بين الشعوب
والأفراد ، وبين العقائد والأديان (هكذا) ... إنّ العضوية في هذه المنظمة بدون نظر
للوطن أو اللون أو الدين أو المذهب السياسي " .
وقد تزعم الأرواح أنها مرسلة من عند الله ، فالدكتور محمد محمد حسين يذكر أن محمد
فريد وجدي نقل عن هذه الأرواح ( الشياطين ) قولها : " نحن مرسلون من عند الله
كما أرسل المرسلون قبلنا ، غير أن تعاليمنا أرقى من تعاليمهم ، فإلهنا هو إلههم ،
إلا أن إلهنا أظهر من إلههم ، وأقل صفات بشرية وأكثر صفات إلهية ... ، لا تخضع لأي
عقيدة مذهبية ، ولا تقبل بلا بصر ولا روية تعاليم لا تستند إلى العقل " .
(96)
وهم
يزعمون أنّ الرسل والأنبياء ما هم إلا وسطاء على درجة عالية من الوساطة ، وأن
المعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية ، كالظواهر التي تحدث في حجرة
تحضير الأرواح ، ويزعمون أنهم يستطيعون أن يعيدوا أحداث ما نسب للمسيح عن طريق
الأرواح .
وقد قامت بعض الصحف بحملة دعائية كبيرة ، زعمت أن أحد محضري الأرواح في أمريكا
يستطيع أن يقوم بمثل معجزات المسيح ، فهو يعيد البصر إلى الأعمى ، والنطق إلى الأبكم
، والحركة للمشلول ، بقي أن تعلم أن الطبيب المزعوم طفل في العاشرة من عمره يدعى (
ميشيل ) . وعندما يأتيه المريض يضع أنامله عليه ، ويتمتم ببعض الأدعية والكلمات
فتحدث المعجزة . ويقولون : إن هذا الطفل ورث الموهبة الروحانية عن والده ، وهو لا
يتقاضى شيئاً من المال عما يقوم به من أعمال (3) .
ووراثة هذا الطفل الأعمال من أبيه تذكرنا بقصة تروى في بعض نواحي فلسطين ، يقول
الرواة : إن أحد الرجال الذين كانوا يظهرون الصلاح والتقى ، كان يفعل عجباً ، فقد
كان – في ذلك الوقت الذي لم تظهر فيه الطائرة والسيارة – ينطلق إلى الحج في ليلة
عرفة ، فيشهد ذلك اليوم مع الحجيج ، ويسلمهم رسائل من أقاربهم وذويهم ، ويأخذ منهم
رسائل إلى أقاربهم وذويهم ، ويعود في الليلة الأخرى ، وكان كثير من الناس يعتقد
فيه الصلاح والخير ، على الرغم من أنه ما كان يقوم بمناسك الحج ، ولا يمكث في منى
المدة المقررة ، ولا يرمي الجمرات .
(97)
ثم شاء
الله أن يكشف باطله ، ويظهر أمره للناس ، فعندما جاءَه الموت استدعى ابنه الأكبر ،
وأخبره أن جملاً سيأتيه ليلة عرفة ، ويحمله إلى عرفات في كل عام ، ولما جاء الجمل
وركبه الابن ، وسار مسافة وقف ، وتحدث إلى الابن وأخبره أنه شيطان ، وأن أباه كان
يعبده ، ويسجد له ، وفي مقابل ذلك يخدمه مثل هذه الخدمات ، ولما رفض الابن السجود
له ، واستعاذ بالله منه ، تركه في الصحراء ، وقدر الله له الرجوع ، وكشف حقيقة
أبيه الكافر .
وقد أشار إلى هذه القصة البيانوني في كتابه ( الملائكة ) بأخصر مما أثبتناه هنا .
هل يمكن استحضار الأرواح ؟
لقد وضعت مجلة ( سينتفيك أمريكان ) جائزة مالية ضخمة لمن يقيم الحجة على صدق
الظواهر الروحية ، ولا تزال الجائزة قائمة لم يظفر بها أحد على الرغم من انتشار
الروحيين ونفوذهم وبراعتهم في أمريكا ، وقد ضم إلى هذه الجائزة جائزة أخرى تبرع
بها الساحر الأمريكي دننجر للغرض نفسه ، ولم يظفر بها أحد أيضاً .
حكم الشريعة في تحضير الأرواح :
ما موقف الإسلام من إمكان إحضار روح المتوفى ؟ إن التأمل في النصوص التي وردت في
هذا تجعل الباحث يعطي حكماً جازماً أن ذلك مستحيل ، فقد أخبرنا الله أن الروح من
عالم الغيب الذي لا سبيل إلى إدراكه : ( ويسألونك عن الرُّوح قل الرُّوح من أمر
ربي وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً ) [ الإسراء : 85 ] .
وأخبر الحقّ – تبارك وتعالى – أنه يتوفى الأنفس ، وأنه يمسك النفوس عند موتها :(
الله يتوفَّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك الَّتي قضى عليها
الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمّىً ) [ الزمر : 42 ] .
وقد وكّل الله بالأنفس ملائكة يعذبونها إن كانت شقية كافرة ، وينعمونها إن كانت
صالحة تقية .
وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يقبض ملك الموت الأرواح وما يفعل بها
بعد ذلك .
(98)
والأرواح
إذا كانت مُمْسكة عند ربها وكل الله بها حفظة أقوياء مهرة ، فلا يمكن أن تتفلت
منهم ، وتهرب لتأتي إلى هؤلاء الذين يتلاعبون بعقول العباد .
وبعض هؤلاء يزعم أنه حضّر روح عبد من عبيد الله الصالحين من الأنبياء والشهداء ،
فكيف يتركون جنان الخلد إلى حجرة التحضير المظلمة ، فقد أخبرنا الله أن الشهداء
أحياء عند ربهم : ( ولا تحسبنَّ الَّذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ( أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ، لها
قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءَت ، ثمّ تأوي إلى تلك القناديل ) .
رواه مسلم في صحيحه (4) ، فكيف يزعم دجالو العصر أنهم يحضرون أرواح هؤلاء ؟ كيف ؟
( كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلاَّ كذباً ) [ الكهف : 5 ] .
شبهة وجوابها :
يقولون : فكيف تعللون معرفة الأرواح بأخلاق وأعمال الرجل الذي تزعم أنها كانت
تسكنه ؟
قلنا : هذا الذي يزعم أنه روح إنما هو شيطان ، ولعل هذا الشيطان هو القرين الذي
كان يلازم الإنسان ، وقد ذكرنا النصوص التي تدلّ على أن لكل إنسان شيطاناً ، فهذا
القرين الملازم للإنسان يعلم عنه الكثير من أخلاقه وعاداته وصفاته ، ويعرف أقاربه
وأصدقاءه .
فعندما يُخْتَبَرُ ما أسهل أن يجيب ؛ لأنه على علم ودراية ، فإن قيل : كيف تفسرون
الإجابات العلمية التي قد نحصل عليها من الأرواح ؟ نقول : سبق أن بينا أن الشياطين
والجن لديهم القدرات العلمية التي تمكنهم من الإجابة والإفادة .
ولكنها إفادة تحمل في طياتها الإضلال العظيم ، فهم لا يفيدوننا إلا بمقدار ، كي
نثق بهم ، ثم يوجهوننا الوجهة الضالة السيئة ، التي توبقنا في دنيانا وأخرانا .
تخلي الشياطين عن أتباعها :
(99)
هؤلاء
الذين يُدعون بالروحانيين ، ويزعمون أنهم يحضرون الأرواح ويعالجون بها كاذبون ،
وما هذه الأرواح إلا شياطين ، وقد تتخلى الشياطين عن هؤلاء فتذلهم وتخذلهم ، نشرت
جريدة القبس الكويتية (5) مقالاً جاء فيه : " بريطانيا بأسرها تتحدث هذه
الأيام عن العالم الروحاني ( بيتر غودوين ) الذي كان يتمتع بمواهب ( روحانية )
خارقة ، يستطيع بوساطتها أن يشفي المرضى من الأمراض المستعصية ، ويكشف الأشياء
المفقودة ، ويسخر الأرواح لخدمة الإنسان .
وكان ( بيتر غودوين ) يتمتع بقدرة فريدة يستطيع بوساطتها أن يوجد في أكثر من مكان
في وقت واحد ، فقد كان يشاهده أصدقاؤه في لندن مثلاً ، ويشاهده آخرون في اللحظة
نفسها في ليفربول ، وآخرون في مانشستر ، بينما يؤكد فريق رابع أنه لم يكن في هذا
المكان ولا ذلك ، وإنما كان يجلس في منزله بين زوجته وأولاده .
وأحياناً كانت أجساده الأثيرية المختلفة تتجمع في مكان واحد ، فيكون جالساً بين
أصدقائه مثلاً ، وفجأة ... تدخل عليهم جميع شخصياته الأخرى ... وتشاركهم الجلسة
... فتأتي شخصيته الثانية والثالثة ، والرابعة والخامسة ، ويصبح ( بيتر غودوين )
عبارة عن خمس شخصيات تجالس الحضور ، وتتحدث إليهم ، أو تتحدث بعضها مع بعض ... ،
بينما يكون الجميع مبهورين ... ، وفجأة خسر ( بيتر غودوين ) كلّ شيء وتحول إلى
إنسان عادي ، ولم يعد قادراً على شفاء المرضى ، ولا اكتشاف الأشياء المفقودة ،
ولاكشف المستقبل ، ولا تسخير الأرواح لخدمة الناس .
وقد بدأت مأساة ( غودوين ) في السنة الماضية عندما حاول استغلال المواهب التي منحت
له لتحقيق مكاسب مادية ... ، وهو ينظر الآن إلى الماضي القريب ويقول : إن ما حدث
لي لم يكن في الحسبان ، فقد غضبت الأرواح مني ، وسلبتني بركتها .
--------------------------------
(1) مجموع الفتاوى : 11/458 .
(2) جامع الرسائل : ص194-195 .
(3) ملحق جريدة القبس الكويتية : 17/10/1977م .
(100)
(4)
مشكاة المصابيح : 2/351 . ورقمه : 3804 .
(5) ملحق جريدة القبس ، تاريخ 12/6/1978م .
المطلب الرابع
الجن وعلم الغيب
شاع لدى كثير من الناس أن الجنّ يعلمون الغيب ، ومردة الجن يحاولون أن يؤكدوا هذا
الفهم الخاطئ عند البشر ، وقد أبان الله للناس كذب هذه الدعوى ، عندما قبض روح
نبيه سليمان ، وكان قد سخر له الجن يعملون بين يديه بأمره ، وأبقى جسده منتصباً ،
واستمر الجنّ يعملون ، وهم لا يدرون بأمر وفاته ، حتى أكلت دابة الأرض عصاه المتكئ
عليها ، فسقط ، فتبين للناس كذبهم في دعواهم ، أنهم يعلمون الغيب : ( فلمَّا قضينا
عليه الموت ما دَلَّهُمْ على موته إلاَّ دابَّة الأرض تأكل منسأته فلمَّا خرَّ
تبيَّنت الجنُّ أن لَّو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) [ سبأ :
14 ] .
وقد سبق القول كيف أنهم كانوا يسترقون خبر السماء ، وكيف زيد في حراسة السماء بعد
البعثة ، فقلما يستطيع الجن استراق السمع بعد ذلك .
العرّافون والكهان :
وبذلك يعلم عظم الخطأ الذي يقع فيه عوام الناس باعتقادهم أن بعض البشر كالعرافين
والكهان يعلمون الغيب ، فتراهم يذهبون إليه يسألونهم عن أمور حدثت من سرقات
وجنايات ، وأمور لم تحدث مما سيكون لهم ولأبنائهم ، ولق خاب السائل والمسؤول ،
فالغيب علمه عند الله ، لا يظهر الله عليه إلا من شاء من رسله : ( عالم الغيب فلا
يظهر على غيبه أحداً – إلاَّ من ارتضى من رَّسولٍ فإنَّه يسلك من بين يديه ومن
خلفه رصداً – ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عددا
) [ الجن : 28 ] .
والاعتقاد بأن فلاناً يعلم الغيب اعتقد آثم ضال ، يخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة
التي تجعل علم الغيب لله وحده .
(101)
إما إذا
تعدى الأمر إلى استفتاء أدعياء الغيب ، فإن الجريمة تصبح من العظم بمكان ، ففي
صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى عرافاً
فسأله عن شيءٍ ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) (1) .
وتصديق هؤلاء كفر ، ففي السنن ومسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً : ( من أتى كاهناً
، فصدقه بما يقول ، فقد برئ مما أنزل على محمد ) (2) .
قال شارح العقيدة الطحاوية : " والمنجم يدخل في اسم ( العراف ) عند بعض
العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه " ، ثم قال : فإذا كانت هذه حال السائل ،
فكيف بالمسؤول ؟ " ومراده إذا كان السائل لا تقبل له صلاة أربعين يوماً ،
وإذا كان الذي يصدق الكاهن والعراف يكفر بالمنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ،
فكيف يكون حكم الكاهن والعراف ؟
سؤال العرافين والكهنة على وجه الامتحان :
يرى ابن تيمية أن سؤال الكهنة ، بقصد امتحان حالهم ، واختبار باطنهم ، ليميز صدقهم
من كذبهم ، جائز ، واستدل بحديث الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن
صياد ، فقال : ( ما ترى ؟ ) فقال : يأتيني صادق وكاذب ، قال : خلط الأمر عليك .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني قد خبأت لك خبيئاً ) ، قال : هو الدخ ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( اخسأ ، فلن تعدو قدرك ) (3) . فأنت ترى أن الرسول
صلى الله عليه وسلم سأل هذا المدّعي ، ليكشف أمره ، ويبين للناس حاله .
المنجمون :
وصناعة التنجيم التي مضمونها : الأحكام والتأثير ، وهو الاستدلال على الحوادث
الأرضية بالأحوال الفلكية ، أو التمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية :
صناعة محرمة بالكتاب والسنة ؛ بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين ، قال تعالى : (
ولا يفلح السَّاحر حيث أتى ) [ طه : 69 ] . وقال تعالى : ( ألم تر إلى الَّذين
أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطَّاغوت ) [ النساء : 51 ] . قال عمر بن
الخطاب : الجبت السحر (4) .
(102)
تعليل
صدق المنجمين والعرافين في بعض الأحيان :
قد يزعم قائل أن العرافين والكهنة والمنجمين يصدقون أحياناً ، والجواب : أن صدقهم
في كثير من الأحيان يكون من باب التلبيس على الناس ، فإنهم يقولون للناس كلاماً
عاماً يحتمل وجوهاً من التفسير ، فإذا حدث الأمر ، فإنه يفسره لهم تفسيراً يوافق
ما قال .
وصدقهم في الأمور الجزئية إما أنه يرجع إلى الفراسة والتنبؤ ، وإما أن تكون هذه
الكلمة الصادقة مما خطفه الجن من خبر السماء . ففي الصحيحين عن عائشة ، قالت : سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ؟ فقال : ( ليسوا بشيء ) . قالوا : يا
رسول الله ، إنهم يحدثوننا بالشيء فيكون حقاً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ، فيقذفها في أذن وليه ، فيخلطون معها مائة
كذبة ) (5) .
وإذا كانت القضية التي صدق فيها من الأمور التي حدثت كمعرفته بالسارق ، أو معرفته
باسم الشخص الذي يقدم عليه لأول مرة وأسماء أبنائه وأسرته ، فهذا قد يكون بحيلة ما
، كالذي يضع شخصاً ليسأل الناس ، وتكون عنده وسيلة لاستماع أقوالهم قبل أن يمثلوا
بين يديه ، أو يكون هذا من فعل الشياطين ، وعلم الشياطين بالأمور التي حدثت ووقعت
ليس بالأمر المستغرب .
الكهنة رسل الشياطين :
(103)
يقول ابن
القيم (6) : " الكهنة رسل الشيطان ؛ لأن المشركين يهرعون إليهم ، ويفزعون
إليهم في أمورهم العظام ، ويصدقونهم ، ويتحاكمون إليهم ، ويرضون بحكمهم ، كما يفعل
أتباع الرسل بالرسل ، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ، ويخبرون عن المغيبات التي
لا يعرفها غيرهم ، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل ، فالكهنة رسل الشيطان حقيقة
، أرسلهم إلى حزبه من المشركين ، وشبههم بالرسل الصادقين ، حتى استجاب لهم حزبه ،
ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ، ولما
كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافاً
أو كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ) (7) .
فإن الناس قسمان : أتباع الكهنة ، وأتباع الرسل ، فلا يجتمع في العبد أن يكون من
هؤلاء وهؤلاء ، بل يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر قربه من الكاهن ،
ويُكَذّبُ الرسول بقدر تصديقه للكاهن .
أقول : ومن يدرس تواريخ الأمم يعلم أن الكهان والسحرة كانوا يقومون مقام الرسل ،
ولكنهم رسل الشياطين ، فالسحرة والكهنة كانت لهم الكلمة المسموعة في أقوامهم ،
يحلون ويحرّمون ، ويأخذون المال ، ويأمرون بأنواع من العبادة والطقوس ترضي
الشياطين ، ويأمرون بقطيعة الأرحام ، وانتهاك الأعراض ، وقد بين العقاد شيئاً من
ذلك في كتابه المسمى بـ ( إبليس ) .
واجب الأمة نحو هؤلاء :
(104)
ما يدعيه
المنجمون ، والعرافون ، والسحرة ، ضلال كبير ومنكر لا يستهان به ، وعلى الذين
أعطاهم الله دينه ، وعلمهم كتابه وسنة نبيه أن ينكروا هذا الضلال بالقول ، ويوضحوا
هذا الباطل بالحجة والبرهان ، وعلى الذين في أيديهم السلطة أن يأخذوا على أيدي
هؤلاء الذين يدّعون الغيب من العرافين والكهنة وضاربي الرمل والحصى ، والناظرين في
اليد ( والفنجان ) ، وعليهم أن يمنعوا نشر خزعبلاتهم في الصحف والمجلات ، ويعاقبوا
من يتظاهر ببضاعته وضلالاته في الطرقات ، وقد ذمّ الله بني إسرائيل لتركهم التناهي
عن المنكر : ( كانوا لا يتناهون عن مُّنكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [
المائدة : 79 ] .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق – رضي الله عنه – أنه قال :
( إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ) . رواه ابن
ماجة والترمذي وصححه (8) .
--------------------------------
(1) رواه مسلم : 4/1751 . ورقمه : 2230 .
(2) مشكاة المصابيح : 2/525 . ورقمه : 4599 .
(3) رواه البخاري : 6/172 . ورقمه : 3055 . ورواه مسلم : 4/2244 . ورقمه : 2930 .
(4) شرح العقيدة الطحاوية : 568 . وراجع في علم النجوم ، أبجد العلوم لصديق حسن
القنوجي : ص 542 .
(5) جامع الأصول لابن الأثير : 5/63 .
(6) إغاثة اللهفان : 1/271 .
(7) رواه بهذا اللفظ أحمد : 2/429 والطبراني في الأوسط : (1453) ورواه أبو داود :
4/225 رقم : (3904) ، والترمذي : 1/164 رقم : (135) ، وابن ماجة : 1/209 رقم :
(639) ، والدارمي : 1/207 رقم (1136) بلفظ : ( من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو
كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد ) .
(8) مشكاة المصابيح : 2/643 . ورقمه : 5412 .
المطلب الخامس
الجن والأطباق الطائرة
(105)
كثر
الحديث في هذه الأيام عن الأطباق الطائرة ، فلا يكاد يمر أسبوع إلا ونسمع أن شخصاً
أو عدة أشخاص رأوا طبقاً طائراً ، رأوه في الجوّ محلقاً ، أو على الأرض جاثماً ،
أو رأوا مخلوقات مخالفة لشكل الإنسان تخرج منه ، ووصل الأمر إلى الادعاء بأن بعض
هذه المخلوقات طلبت إلى بعض الناس مصاحبتها إلى الطبق ، وأجرت فحوصاً عليه .
ولا يدعي هذه الدعوى أناس مغمورون فحسب ، بل يزعم ذلك رجال بارزون أمثال رئيس الولايات
المتحدة الأمريكية ، فإنه يعتقد أنّه لمح شيئاً طائراً لم يتعرف على ماهيته في
سماء ولاية جورجيا عام 1973 .
وهو يبدي اهتماماً خاصاً بالمخلوقات الأخرى التي بدأت تغزو الأرض ، فقد أمضى
الرئيس الأمريكي ( كما نشرت الصحف ) أمسية يناقش أحد العلماء المقتنعين بأن
الإنسان ليس المخلوق الوحيد في الكون ، وكان يرافق الرئيس كارتر (فرانك برس)
مستشاره للشؤون العلمية ، وبعد ذلك شاهد كارتر داخل المرصد القومي أفلاماً توجز
آخر ما توصلت إليه الأبحاث حول المخلوقات التي تعيش خارج نطاق الأرض ، وقام بعرض
هذه الأفلام (كارل ساجان) ، مدير معمل الدراسات الكونية بجامعة (كورنل) ، الذي
ترجع إليه دائماً وكالة الفضاء الأمريكية في الأمور المتعلقة بالمخلوقات التي تعيش
خارج نطاق كوكب الأرض (1) .
وينسب ملحق صحيفة الهدف الكويتية الصادر بتاريخ 23/3/78 إلى الرئيس الصيني الأسبق
( ماوتسي تنغ ) أنه كان يؤمن بوجود مخلوقات غيرنا في الكواكب الأخرى .
ويذكر كاتب المقال أن حوالي 61% من الشعب الأمريكي مقتنعون بذلك ، وتزعم الصحف
الأمريكية أن قرابة نصف مليون أمريكي شاهدوا هذه الأطباق ، وبعض هؤلاء استطاعوا أن
يتصلوا بهم اتصالاً مباشراً .
وقد أخرج السينمائي الأمريكي ( ستيفن سبيلبرغ ) ( فيلماً ) سينمائياً بعنوان (
مواجهة من النوع الثالث ) بلغت تكاليفه اثنين وعشرين مليوناً من الدولارات
الأمريكية .
(106)
وقد وضع
الفيلم بعد تجميع المعلومات من الذين شاهدوا الأطباق الطائرة ، أو اتصلوا بها .
وقد عرض الفيلم لأول مرة في البيت الأبيض ، وكان الرئيس الأمريكي أول مشاهديه .
وبعد خروج هذا الفيلم اقتنعت وكالة الفضاء الأمريكية بضرورة البحث في هذا المجال ،
وخصصت مليون دولار لأبحاث عام 1979 ، وقد أطلقت على المشروع السري اسم (سيتي) .
ويتلخص في إطلاق أجهزة خاصة للفضاء الخارجي ؛ للبحث عن رسائل لاسلكية قادمة من
كواكب أخرى .
ويمكننا بعد هذا العرض أن نقرر ما يأتي :
1- لا مجال للتكذيب بوجود مخلوقات غريبة غير الإنسان ، إذ تواترت الرؤية من عشرات
الألوف بل مئات الألوف ، وقد تابعتُ ما قيل في هذا الموضوع فترة طويلة ، فكنت أجد
مقالاً كل أسبوع تقريباً أو أكثر أو أقل حول رؤية جماعة أو شخص لشيء من هذا (2) .
2- احتار الناس في تفسير حقيقة هذه الأطباق ، وحقيقة المخلوقات التي تستخدمها ،
خاصة أن سرعة هذه الأطباق خيالية تفوق سرعة أي مركبة اخترعها الإنسان .
3- أكاد أجزم بأن هذه المخلوقات هي من عالم الجن الذي يسكن أرضنا هذه ، والذين
تحدثنا عنهم فيما سبق ، وبينا ما لديهم من قدرات وإمكانات تفوق قدرة البشر ، ولقد
أعطوا سرعة تفوق سرعة الصوت والضوء ، كما أعطوا القدرة على التشكل ، وهم يستطيعون
أن يتمثلوا للإنسان في صور وأشكال مختلفة .
وبذلك يتبين لنا فضل الله علينا إذ عرفنا بهذه الحقائق ، خاصة ونحن نشعر بالحيرة
والقلق لدى الذين لا يعلمون ما علمناه ، وبذلك نوفر طاقاتنا العقلية وقدراتنا
العلمية وأموالنا ؛ كي نوجهها وجهة نافعة .
(107)
وقد
يتساءل بعضنا عن السرّ في ظهور هذه الأطباق في أيامنا هذه ، وعدم ظهورها في العصور
الخالية ، فالجواب أن الجن يلبسون لكل عصر لبوسه ، وهذا العصر عصر التقدم العلمي ،
ولذلك فإنهم يضللون البشر بالطريقة التي تثير انتباههم ، وتشد نفوسهم ، والناس
اليوم يتطلعون إلى معرفة شيء عن الفضاء الواسع ، وعن إمكانية وجود مخلوقات غيرهم
فيه .
وقد تحدثنا في كتابنا (( عالم الملائكة )) عن تنزل الملائكة لقراءة القرآن ، وأن
بعض الصحابة رأى ظلة فيها مثل المصابيح ، وتنزل الملائكة على هذا النحو ليس قصراً
على عهد النبوة .
--------------------------------
(1) راجع جريدة السياسة الكويتية العدد (33999) : 5/12/77 .
(2) وآخر ذلك ما حدث في الكويت ، فقد قرر أكثر من شخص أنه رأى طبقاً طائراً ، وقد
نشرت الصحف الكويتية النبأ في حينه .
أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان ( الجزء الأول )
أولاً : الحذر والحيطة :
هذا العدو الخبيث الماكر حريص على إضلال بني آدم ، وقد علمنا أهدافه ووسائله في
الإضلال ، فبمقدار علمك بهذا العدو : أهدافه ووسائله والسبل التي يضلنا بها تكون
نجاتنا منه ، أما إذا كان الإنسان غافلاً عن هذه الأمور فإن عدوه يأسره ويوجهه
الوجهة التي يريد .
وقد صور ابن الجوزي هذا الصراع بين الإنسان والشيطان تصويراً بديعاً حيث يقول :
" واعلم أن القلب كالحصن ، وعلى ذلك الحصن سور ، وللسور أبواب وفيه ثلم (1) ،
وساكنه العقل ، والملائكة تتردد على ذلك الحصن ، وإلى جانبه ربض (2) فيه الهوى ،
والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع ، والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل
الربض ، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم
.
فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم ، وألا
يفتر عن الحراسة لحظة ، فإن العدو لا يفتر . قال رجل للحسن البصري : أينام إبليس ؟
قال : لو نام لوجدنا راحة .
(108)
وهذا
الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان ، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صورة كل ما يمرّ
به ، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان ، فتسودّ حيطان الحصن ، وتصدأ
المرآة ، وكمال الفكر يرد الدخان ، وصقل الذكر يجلو المرآة ، وللعدو حملات ، فتارة
يحمل فيدخل الحصن ، فيكر عليه الحارس فيخرج ، وربما دخل فعاث ، وربما أقام لغفلة
الحراس ، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان ، فتسود حيطان الحصن ، وتصدأ المرآة
فيمر الشيطان ولا يدري به ، وربما جرح الحارس لغفلته ، وأسر واستخدم ، وأقيم
يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته " (3) .
ثانياً : الالتزام بالكتاب والسنّة :
أعظم سبيل للحماية من الشيطان هو الالتزام بالكتاب والسنة علماً وعملاً ، فالكتاب
والسنة جاءا بالصراط المستقيم ، والشيطان يجاهد كي يخرجنا عن هذا الصراط قال تعالى
: ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن
سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلَّكم تتَّقون ) [ الأنعام : 153 ] .
وقد شرح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية فعن عبد الله بن مسعود قال : "
خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ، ثمّ قال : ( هذا سبيل الله ) ثمّ خط
خطوطاً عن يمينه وشماله وقال : ( هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه )
وقرأ : ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ) [ الأنعام : 153 ] . رواه الإمام
أحمد والنسائي والدارمي (4) .
فاتباع ما جاءنا من عند الله من عقائد وأعمال وأقوال وعبادات وتشريعات ، وترك كل
ما نهى عنه ، يجعل العبد في حرز من الشيطان ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : ( يا
أيَّها الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه
لكم عدوٌّ مُّبينٌ ) [البقرة : 208] .
(109)
والسلم :
هو الإسلام . وقيل طاعة الله ، وفسره مقاتل بأنه العمل بجميع الأعمال ووجوه البر ،
وعلى ذلك فقد أمرهم بالعمل بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ما استطاعوا ، ونهاهم
عن اتباع خطوات الشيطان ، فالذي يدخل في الإسلام مبتعد عن الشيطان وخطواته ، والذي
يترك شيئاً من الإسلام فقد اتبع بعض خطوات الشيطان ، ولذلك كان تحليل ما حرم الله
، وتحريم ما أحل الله ، أو الأكل من المحرمات والخبائث ، كل ذلك من اتباع خطوات
الشيطان التي نهينا عنها : ( يا أيَّها النَّاس كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيباً
ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبين ) [ البقرة : 168 ] .
إن الالتزام بالكتاب والسنة قولاً وعملاً يطرد الشيطان ويغيظه أعظم إغاظة ، روى
مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قرأ
ابنُ آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ، ( وفي رواية أبي
كريب : يا ويلي ) أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنّة وأُمرتُ بالسجود فأبيت ،
في النار ) (5) .
ثالثاً : الالتجاء إلى الله والاحتماء به :
خير سبيل للاحتماء من الشيطان وجنده هو الالتجاء إلى الله والاحتماء بجنابه ،
والاستعاذة به من الشيطان ، فإنه عليه قادر . فإذا أجار عبده فأنى يخلص الشيطان
إليه ، قال تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين – وإمَّا ينزغنَّك
من الشَّيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنَّه سميع عليم ) [ الأعراف : 199-200 ] .
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من همزات الشياطين
وحضورهم : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشَّياطين – وأعوذ بك رب أن يحضرون )
[المؤمنون : 97-98] .
وهمزات الشياطين : نزغاتهم ووساوسهم ، فالله يأمرنا بالاستعاذة به من العدو
الشيطاني لا محالة ؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم
، لشدة العداوة بينه وبين آدم .
(110)
يقول ابن
كثير في تفسيره : " والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى ، والالتصاق
بجنابه من شرّ كل ذي شرّ ... ، ومعنى ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ؛ أي :
أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم ، أن يضرني في ديني ودنياي ، أو يصدني عن فعل
ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ، فإن الشيطان لا يكفّه عن الإنسان إلا
الله ؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده
طبعه عما هو فيه من الأذى ، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ ؛ لأنه لا يقبل
رشوة ، ولا يؤثر فيه جميل ؛ لأنه شرير بالطبع ، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه "
(6) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة بربه من الشيطان بصيغ مختلفة ، فكان
يقول بعد دعاء الاستفتاح في الصلاة : ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) ، روى ذلك أصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن أبي سعيد
(7) .
مواضع الاستعاذة :
1- الاستعاذة عند دخول الخلاء :
وكان إذا دخل الخلاء يستعيذ من الشياطين ذكورهم وإناثهم ، كما في الصحيحين عن أنس
بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء ، قال :
( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) (8) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( إن هذه الحشوش محتضرة ، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل : أعوذ بالله من
الخبث والخبائث ) (9) .
2- الاستعاذة عند الغضب :
عن سليمان بن صُرَد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس
، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً ، قد احمرّ وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (
إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) . رواه
البخاري ومسلم (10) .
(111)
وقد
علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول : ( اللهم
فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، لا إله إلا أنت ، ربّ كل شيء ومليكه
، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شرّ الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءاً ، أو
أجره إلى مسلم ) (11) . رواه الترمذي .
3- الاستعاذة عند الجماع :
وحثنا على الاستعاذة حين يأتي الرجل أهله ، فعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم
جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره
شيطان أبداً ) . متفق عليه (12) .
4- الاستعاذة عند نزول وادٍ أو منزل :
وإذا نزل المرء وادياً أو منزلاً ، فعليه أن يستعيذ بالله ، لا كما كان يفعل أهل
الجاهلية يستعيذون بالجن والشياطين ، فيقول قائلهم : أعوذ بزعيم هذا الوادي من
سفهاء قومه ، فكانت العاقبة أن استكبرت الجن وآذتهم ، كما حكى الله عنهم ذلك في
سورة الجن : ( وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً )
[الجن : 6] ؛ أي الجن زادت الإنس رهقاً .
وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نستعيذ بالله عندما ننزل منزلاً فعن خولة
بنت حكيم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال :
أعوذ بكلمات الله التامة من شرّ ما خلق ، لم يضره في ذلك المنزل شيء ، حتى يرتحل
منه ) . رواه ابن ماجة بإسناد صحيح (13) .
5- التعوذ بالله من الشيطان عند سماع نهيق الحمار :
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان
الرجيم ) . رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد صحيح (14) ، وقد أخبرنا الرسول
صلى الله عليه وسلم أن الحمار إذا نهق فإنه يكون قد رأى شيطاناً (15) .
6- التعوذ حين قراءَة القرآن :
(112)
قال
تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم – إنَّه ليس له
سلطان على الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون ) [ النحل : 98-99 ] .
وقد بين ابن القيم الحكمة في الاستعاذة بالله من الشيطان حين قراءَة القرآن ، فقال
:
1- " إن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس
والشهوات والإرادات الفاسدة ، فهو دواء لما أمره الشيطان فيها ، فأمر أن يطرد مادة
الداء ، ويخلي منه القلب ، ليصادف الداء محلاً خالياً ، فيتمكن منه ، ويؤثر فيه ،
كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ××× فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب ، وقد خلا من مزاحم ومضاد له ، فينجع فيه .
2- ومنها : أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب ، كما أنّ الماء مادة
النبات ، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً ، فكلما أحسّ بنبات الخير من
القلب ، سعى في إفساده وإحراقه ، فأمر أن يستعيذ بالله – عزّ وجلّ – منه ، لئلا
يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن .
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول
فائدة القرآن ، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها .
3- ومنها : أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن ، وتستمع لقراءته ، كما في حديث أسيد
بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها المصابيح ، فقال عليه الصلاة والسلام :
( تلك الملائكة ) ، والشيطان ضد الملك وعدوه ، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى
مباعدة عدوه عنه ، حتى يحضره خاص ملائكته ، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة
والشياطين .
4- ومنها : أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله ، حتى يشغله عن المقصود
بالقرآن ، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه ، فيحرص بجهده على
أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن ، فلا يكمل انتفاع القارئ به ، فأمر عند
الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
(113)
5- ومنها
: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه ، والله أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت
بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ، والشيطان إنما قراءَته الشعر والغناء ، فأمر
القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الربّ قراءَته .
6- ومنها : أن الله سبحانه أخبر أنّه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى
الشيطان في أمنيته ، والسلف كلهم على أن المعنى : إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته
... ، فإذا كان هذا مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم . ولهذا يغلط
الشيطان القارئ تارة ، ويخلط عليه القراءَة ، ويشوشها عليه ، فيخبط عليه لسانه ،
أو يشوش عليه ذهنه وقلبه ، فإذا حضر عند القراءَة ، لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا
، وربما جمعها له .
7- ومنها : أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير ، أو يدخل فيه ،
فهو يشتد عليه حينئذ ؛ ليقطعه عنه " (16) .
7- تعويذ الأبناء والأهل :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن
والحسين : ( أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة )
. ويقول : ( إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق ) . رواه البخاري (17) .
قال أبو بكر ابن الأنباري : " الهامة : واحد الهوام ، ويقال : هي كل نسمة تهم
بسوء ، واللامة : الملمة ، وإنما قال : لامة ليوافقه لفظ هامة ، فيكون أخف على
اللسان " (18) .
خير ما يتعوذ به المتعوذون :
وخير ما يتعوذ به المتعوذون سورتا الفلق والناس ، فقد أمر الرسول صلى الله عليه
وسلم عبد الله بن خبيب أن يقرأ : ( قل هو الله أحد ) ، والمعوذتين حين يمسي ، وحين
يصبح ، ثلاثاً . وقال له : ( يكفيك الله كل شيء ) .
وفي رواية أخرى أمره بقراءَة المعوذتين ، ثم قال له : ( ما تعوذ الناس بأفضل منهما
) .
(114)
وفي بعض
الروايات : أن هذه القصة كانت مع عقبة بن عامر . وفي رواية أن الرسول صلى الله
عليه وسلم قال لابن عابس الجهني : ( إن أفضل ما تعوذ به المتعوذون المعوذتان ) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث عقبة : ( ما سأل سائل بمثلهما ،
ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما ) (19) .
كيف تصنع بالشيطان إذ سوّل لك الخطايا ؟
حكي عن أحد علماء السلف أنه قال لتلميذه : " ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك
الخطايا ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال :
أجاهده .
قال هذا يطول ، أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها ، أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال
: أكابده جهدي وأرده . قال : هذا أمر يطول ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفّه عنك
" (20) .
وهذا فقه عظيم من هذا العالم الجليل ، فإن الاحتماء بالله ، والالتجاء إليه ، هو
السبيل القوي الذي يطرد الشيطان ويبعده ، وهذا ما فعلته أم مريم إذ قالت : ( وإني
أعيذها بك وذريتها من الشَّيطان الرَّجيم ) [ آل عمران : 36 ] .
لماذا لا يذهب الشيطان عندما يستعيذ منه الإنسان ؟
يقول بعض الناس : إننا نستعيذ بالله ، ومع ذلك فإننا نحس بالشيطان يوسوس لنا ،
ويحرضنا على الشر ، ويشغلنا في صلاتنا .
والجواب : أن الاستعاذة كالسيف في يد المقاتل ، فإن كانت يده قوية ، أصاب من عدوه
مقتلاً ، وإلا فإنه قد لا يؤثر فيه ، ولو كان السيف صقيلاً حديداً .
وكذلك الاستعاذة إذا كانت من تقيّ ورع كانت ناراً تحرق الشيطان ، وإذا كانت من
مخلط ضعيف الإيمان فلا تؤثر في العدو تأثيراً قوياً .
(115)
قال أبو
الفرج ابن الجوزي رحمه الله : " واعلم أن مثل إبليس مع المتقي والمخلط ، كرجل
جالس بين يديه طعام ولحم ، فمرّ به كلب ، فقال له : اخسأ ، فذهب . فمرّ بآخر بين
يديه طعام ولحم فكلّما أخسأه (طرده) لم يبرح . فالأول مثل المتقي يمر به الشيطان ،
فيكفيه في طرده الذكر ، والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشيطان لمكان تخليطه ، نعوذ
بالله من الشيطان " (21) .
فعلى المسلم الذي يريد النجاة من الشيطان وأحابيله أن يشتغل بتقوية إيمانه ،
والاحتماء بالله ربه ، والالتجاء إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
رابعاً : الاشتغال بذكر الله :
ذكر الله من أعظم ما ينجي العبد من الشيطان ، وفي الحديث : أن الله أمر نبي الله
يحي أن يأمر بني إسرائيل بخمس خصال ، ومن هذه : ( وآمركم أن تذكروا الله تعالى ،
فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدّو في أثره سراعاً ، حتى إذا أتى إلى حصن حصين ،
فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ) .
يقول ابن القيم (22) : " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان
حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى ، وأن لا يزال لهجاً بذكره ،
فإنّه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة ،
فهو يرصده ، فإذا غفل ، وثب عليه وافترسه ، وإذا ذكر الله تعالى ، انخنس عدو الله
وتصاغر ، وانقمع ، حتى يكون كالوَصع [ طائر أصغر من العصفور ] ، وكالذباب ، ولهذا
سمي ( الوسواس الخناس ) ؛ لأنه يوسوس في صدور الناس ، فإذا ذكر الله خنس ، أي كف
وانقبض . وقال ابن عباس : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ،
فإذا ذكر الله تعالى خنس " .
(116)
ويقول
ابن القيم : " الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه ، فما ظنك برجل قد احتوشه
أعداؤه المحنقون عليه غيظاً ، وأحاطوا به ، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشرّ
والأذى ، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عزّ وجلّ " .
ثم ساق – رحمه الله – حديث عبد الرحمن بن سمرة ، قال : خرج علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوماً ، وكنا في صفّةٍ بالمدينة ، فقام علينا وقال : ( إنّي رأيت
البارحة عجباً : رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه برّه
بوالديه ، فرد ملك الموت عنه .
ورأيت رجلاً قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوؤه ، فاستنقذه من ذلك .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ ، فطرد
الشياطين عنه .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته ، فاستنقذته من
أيديهم .
ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب – وفي رواية : يلهث – عطشاً ، كلما دنا من حوض منع وطرد
، فجاءه صيام شهر رمضان ، فأسقاه وأرواه .
ورأيت رجلاًَ من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حِلَقاً حِلَقاً ، كلما دنا إلى حلقة
طرد ، فجاءه غسلُهُ من الجنابة ، فأخذ بيده ، فأقعده إلى جنبي .
ورأيتُ رجلاً من أمتي ، بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن
يساره ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ، وهو متحيّر فيها ، فجاءه حجة وعمرته
، فاستخرجاه من الظلمة ، وأدخلاه في النور .
ورأيت رجلاً من أمتي يتقي بيده وهج النار وشرره ، فجاءته صدقته ، فصارت سترة بينه
وبين النار ، وظللت على رأسه .
ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه ، فجاءته صلته لرحمه فقالت : يا معشر
المسلمين ، إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه ، فكلمه المؤمنون ، وصافحوه وصافحهم .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الزبانية ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ،
فاستنقذه من أيديهم ، وأدخله في ملائكة الرحمة .
(117)
ورأيت
رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه ، وبينه وبين الله عزّ وجلّ حجاب ، فجاءه حُسن
خلقه ، فأخذ بيده ، فأدخله على الله عزّ وجلّ .
ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله عزّ وجلّ ،
فأخذ صحيفته ، فوضعها في يمينه .
ورأيت رجلاً من أمتي خفّ ميزانه فجاء أفراطه (23) ، فثقلوا ميزانه .
ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم ، فجاءه رجاؤه في الله عزّ وجلّ ،
فاستنقذه من ذلك ومضى .
ورأيت رجلاً من أمتي قد أقوى في النار ، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عزّ
وجلّ فاستنقذته من ذلك .
ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السّعَفة في ريح عاصف ،
فجاءه حُسْنُ ظنهِ بالله عزّ وجلّ ، فسَكن رعدَتَهُ ومضى .
ورأيت رجلاً من أمتي يزحفُ على الصراط ، ويحبوا أحياناً ، ويتعلق أحياناً ، فجاءته
صلاته ، فأقامته على قدميه ، وأنقذته .
ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة ، فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة
أن لا إله إلا الله ، ففتحت له الأبواب ، وأدخلته الجنة ) .
رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب ( الترغيب في الخصال المنجية ، والترهيب من
الخلال المردية ) ، وبنى كتابه عليه وجعله شرحاً له ، وقال : هذا حديث حسن جداً ،
رواه عن سعيد بن المسيب : عمرو بن آزر ، وعلي بن زيد بن جدعان ، وهلال أبو جبلة .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه ، يعظم شأن هذا الحديث ، وبلغني عنه
أنه كان يقول : شواهد الصحة عليه .
والمقصود منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين
، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ ، فطرد الشيطان عنه ) فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري
(24) .
وقوله فيه : ( وآمركم بذكر الله عزّ وجلّ ، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو ،
فانطلقوا في طلبه سِراعاً ، وانطلق حتى أتى حصناً حَصيناً ، فأحرز نفسه فيه ) .
(118)
فكذلك
الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله عزّ وجلّ ، فعن أنس بن مالك قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا خرج من بيته فقال : بسم الله ، توكلتُ
على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له حينئذ : هُدِيت وكفُيتَ ووُقِيتَ ،
فيتَنَحّى له الشيطان ، ويقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدِي وكُفي ووُقي ؟ ) .
رواه أبو داود ، وروى الترمذي إلى قوله : ( له الشيطان ) (25) .
وصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، في يوم مائة مرة
، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له
حرزاً من الشيطان يومه ذلك ، حتى يمسي ) . متفق عليه (26) .
وقال أبو خلاد المصري : من دخل في الإسلام ، دخل في حصن ، ومن دخل المسجد ، فقد
دخل في حصنين ، ومن جلس في حلقة يذكر الله عزّ وجلّ فيها ، فقد دخل في ثلاثة حصون
.
وفي صحيح البخاري ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : " ولاّني رسول
الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضانَ أن احتفظ بها ، فأتاني آتٍ ، فجعل يَحْثُوا
الطعام ، فأخذته ، فقال : دعني فإني لا أعود .... " . فذكر الحديث ، وقال :
فقال في الثالثة : " أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ، إذا أويتَ إلى فراشك ،
فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها ، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا
يقربك شيطان حتى تصبح " فخلى سبيله ، فأصبح ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله ، فقال : ( صَدَقَكَ ، وهو كذوب ) .
وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( إذا أوى الإنسانُ إلى فراشه ، ابتدرهُ ملكٌ وشيطانٌ ، فيقول الملكُ
: اختم بخير ، ويقول الشيطان : اختم بشر ، فإذا ذكر الله ، ثم نام ، بات الملك
يكلؤه .
(119)
وإذا
استيقظ ، قال الملك : افتح بخير ، وقال الشيطان : افتح بشر ، فإن قال : الحمد لله
الذي ردَّ علي نفسي ، ولم يمتها في منامها ، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض
أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، الحمد لله الذي يمسك السماء أن
تقع على الأرض إلا بإذنه ، فإن وقع عن سريره فمات دخل الجنة ) .
رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة "
(27) .
وفي الصحيحين عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( لو أن أحدكُم إذا أراد أن يأتي أهلَهُ فقال : بسم الله ، اللهم جنبنا
الشيطانَ ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لا يضرهُ
شيطانٌ أبداً ) (28) .
وقد ثبت في (( الصحيح )) أن الشيطان يهرب من الأذان .
قال سهيل بن أبي صالح : " أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام – أو صاحب لنا
– فناداه منادٍ من حائط باسمه قال : وأشرف الذي معي على الحائط ، فلم ير شيئاً ،
فذكرت ذلك لأبي ، فقال : لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ،ولكن إذا سمعت صوتاً فناد
بالصلاة ، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (
إنّ الشيطان إذا نودي بالصلاة ، ولى وله حصاص ) (29) .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نودي للصلاة أدبر
الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي النداء أقبل ، حتى إذا قضي
التثويب ، أقبل حتى يخطر ببين المرء ونفسه .... ) (30) .
(120)
روى
الإمام أحمد أن أبا تميمة سمع أحد الصحابة يحدث أنه كان رديف رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم حماره ، فقلت : تعس الشيطان ، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تقل : تعس الشيطان ، فإنك إذا قلت : تعس الشيطان
تعاظم ، وقال : بقوتي صرعته ، وإذا قلت : باسم الله تصاغر ، حتى يصير مثل الذباب )
. قال ابن كثير (31) : تفرد به أحمد ، وإسناده جيد .
خامساً : لزوم جماعة المسلمين :
ومما يبعد المسلم عن الوقوع في أحابيل الشيطان أن يعيش في ديار الإسلام ، ويختار
لنفسه الفئة الصالحة التي تعينه على الحق ، وتحضّه عليه ، وتذكره بالخيرات ، فإن
في الاتحاد والتجمع قوة وأي قوة ، عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بالجابية ، فقال :
يا أيها الناس ، إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، فكان مما
قال : ( عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من
الاثنين أبعد .. ) (32) .
والجماعة جماعة المسلمين ، وإمام المسلمين ، ولا قيمة للجماعة في الإسلام ما لم
تلتزم بالحق : الكتاب والسنة ، فعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو ، لا تقام فيهم الصلاة ، إلا قد
استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب القاصية ) (33) .
وروى أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال : ألا إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال : ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا
على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في
النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة ) (34) .
سادساً : كشف مخططات الشيطان ومصائده (35) :
(121)
على
المسلم أن يتعرف على سبله ووسائله في الإضلال ، ويكشف ذلك للناس ، وقد فعل ذلك
القرآن ، وقام بهذه المهمة الرسول صلى الله عليه وسلم خير قيام ، فالقرآن عرفنا
الأسلوب الذي أغوى الشيطان به آدم . والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الصحابة
كيف يسترق الشيطان السمع ، ويلقي بالكلمة التي سمع في أذن الكاهن أو الساحر ومعها
مائة كذبة ، يبين ذلك لهم كي لا ينخدعوا بأمثال هؤلاء ، وبين لهم كيف يوسوس لهم
ويشغلهم في صلاتهم وعبادتهم ، وكيف يحاول الشيطان أن يوهمهم بأن وضوءهم قد فسد ،
والأمر ليس كذلك ، وكيف يفرق بين المرء وزوجه ، وكيف يوسوس للمرء ، فيقول له : من
خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟
--------------------------------
(1) الثلمة في السور : الموضع المتهدم منه .
(2) الربض : المكان الذي يُؤوى إليه .
(3) تلبيس إبليس : 49 .
(4) مشكاة المصابيح : 1/58 . ورقمه : 166 . وقال محقق المشكاة : وإسناده حسن .
(5) صحيح مسلم : 1/87 . ورقمه : 81 .
(6) تفسير ابن كثير : 1/28 .
(7) حديث صحيح ، انظر تخريجه ، وكلام الشيخ ناصر الدين الألباني عليه في إرواء
الغليل : 2/51 . ورقمه : 341 .
(8) رواه البخاري : 1/242 . ورقمه : 142 ، ورواه مسلم : 1/283 . ورقمه : 375 .
(9) صحيح سنن أبي داود :1/4 . ورقمه :4 .
(10) مشكاة المصابيح : 1/743 . ورقمه : 2418 .
(11) صحيح سنن الترمذي : 3/172 . ورقمه : 2798 .
(12) مشكاة المصابيح : 1/732 . ورقمه : 3416 .
(13) صحيح سنن ابن ماجة : 2/273 . ورقمه : 2857 .
(14) راجع صحيح الجامع : 1/286 .
(15) الحديث رواه البخاري ومسلم . انظر : مشكاة المصابيح : 1/743 . ورقمه : 2419 .
(16) إغاثة اللهفان : 1/109 .
(17) مشكاة المصابيح : 1/488 . ورقمه : 1535 .
(18) تلبيس إبليس : 47 .
(19) انظر هذه الأحاديث في صحيح سنن النسائي : 3/1104 –1107 . وأرقامها :
5017-5029 .
(20) تلبيس إبليس : 48 .
(122)
(21)
تلبيس إبليس : 48 .
(22) الوابل الصيب : ص60 .
(23) جمع فرط ، والمراد به : من مات له من الأطفال .
(24) الوابل الصيب : ص144 .
(25) مشكاة المصابيح : 1/749 . ورقمه : 1442 .
(26) مشكاة المصابيح : 1/708 . ورقمه : 2302 .
(27) مجمع الزوائد : 10/120 . أقول : وصوابه السامي بالسين .
(28) رواه البخاري : 13/379 . ورقمه : 7396 . ورواه مسلم : 2/1058 . ورقمه : 1434
.
(29) رواه مسلم : 1/290 . ورقمه : 389 .
(30) رواه البخاري : 2/48 . ورقمه : 806 . وانظره أيضاً برقم : 1222 ، 1231 ، 1232
، 3285 . ورواه مسلم : 1/290 . ورقمه : 389 .
(31) مسند الإمام أحمد : 5/59 ، البداية والنهاية : 1/65 .
(32) صحيح سنن الترمذي : 2/232 . ورقمه : 1758 .
(33) صحيح سنن أبي داود : 1/109 . ورقمه : 541 .
(34) صحيح سنن أبي داود : 3/869 . ورقمه : 3842 .
(35) إذا رغبت في الوقوف على تفاصيل مخططات الشيطان ومكائده ومصائده ، وكيف ألبس
على الناس دينهم في العقائد والعبادات والمعاملات ، وكيف تلاعب باليهود والنصارى
والمجوس وعباد الأوثان – فلا غنى لك عن قراءة كتابين : الأول : تلبيس إبليس ، لابن
الجوزي ، الثاني : إغاثة اللهفان ، لابن القيم .
أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان ( الجزء الثاني )
سابعاً : مخالفة الشيطان :
يأتي الشيطان في صورة ناصح يحرص على الإنسان كما سبق ، فعلى المرء أن يخالف ما
يأمر به ، ويقول له : لو كنت ناصحاً أحداً لنصحت نفسك ، فقد أوقعت نفسك في النار ،
وجلبت لها غضب الجبّار ، فكيف ينصح غيره من لا ينصح نفسه .
يقول الحارث بن قيس : " إذا أتاك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي فزدها
طولاً " (1) . وهذا فقه جيد منه ، رحمه الله .
(123)
وإذا
علمنا أنّ أمراً ما يحبّه الشيطان ، ويتصف به ، فعلينا أن نخالفه ، فمثلاً الشيطان
يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ، ويأخذ بشماله ، لذا وجبت علينا مخالفته . روى أبو
هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليأكل أحدكم بيمينه ، وليشرب بيمينه
، وليأخذ بيمينه ، وليعط بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ، ويعطي
بشماله ، ويأخذ بشماله ) (2) .
والشيطان يشاركنا في الشرب إذا شربنا ، ونحن وقوف ، ولذا أرشدنا الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى الشرب ونحن جلوس .
ورغّبنا الرسول صلى الله عليه وسلم في القيلولة ، معلّلاً ذلك بأن الشياطين لا
تقيل ، ( قيلوا ، فإنّ الشياطين لا تقيل ) . رواه أبو نعيم في الطبّ ، بإسناد حسن
(3) .
وحذرنا القرآن من الإسراف ، وقد عدّ المبذرين إخوان الشياطين ، وما ذلك إلا لأن
الشياطين تحب إضاعة المال وإنفاقه في غير وجهه .
ومن الإسراف الإكثار من الأثاث والفراش الذي لا لزوم له ، روى مسلم في صحيحه عن
جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الفرش فقال : ( فراش
للرجل ، وفراش لامرأته ، وفراش للضيف ، والرابع للشيطان ) (4) .
ومن هذا المنطلق أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نميط الأذى عن اللقمة التي
تسقط من أحدنا ، ولا نتركها للشيطان ، عن جابر رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : ( إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه ، حتى يحضره
عند طعامه ، فإذا سقطت اللقمة ، فليمط ما كان بها من أذى ، ثم ليأكلها ، ولا يدعها
للشيطان ، فإذا فرغ فليلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة ) (5) .
مراكب الشيطان :
(124)
هذه الخيول
والدواب التي يقامر عليها ويراهن عليها تعدّ من مراكب الشياطين ، يقول الرسول صلى
الله عليه وسلم : ( الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ،
فأما فرس الرحمن ؛ فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه ، وروثه ، وبوله في ميزانه ،
وأمّا فرس الشيطان ، فالذي يقامر أو يراهن عليه ، وأما فرس الإنسان ، فالفرس
يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي ستر من الفقر ) . رواه أحمد بإسناد صحيح (6) .
العجلة من الشيطان :
من الصفات التي يحبها الشيطان العجلة ؛ لأنها توقع الإنسان في كثير من الأخطاء ،
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان ) . رواه
البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن (7) . فعلينا أن نخالف الشيطان في ذلك ، ونتبع
ما يرضي الرحمن ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : ( إن فيك
لخصلتين يحبهما الله ؛ الحلم والأناة ) (8) .
التثاؤب :
ومما يحبه الشيطان من الإنسان التثاؤب ؛ ولذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم
بكظمه ما استطعنا ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( التثاؤب من الشيطان ، فإذا تثاءَب أحدكم فليرده ما استطاع ، فإن أحدكم إذا قال :
ها ، ضحك منه الشيطان ) (9) . وذلك لأن التثاؤب علامة الكسل ، والشيطان يعجبه
ويفرحه من الإنسان كسله وفتوره ؛ إذ بذلك يقل عمله وبذله الذي يرفعه عند ربه .
ثامناً : التوبة والاستغفار :
ومما يواجه به العبد كيد الشيطان أن يسارع بالتوبة والأوبة إلى الله إذا أغواه
الشيطان ، وهذا دأب عباد الله الصالحين ، قال تعالى : ( إنَّ الَّذين اتَّقوا إذا
مسَّهم طائفٌ من الشَّيطان تذكَّروا فإذا هم مُّبصرون ) [ الأعراف : 201 ] .
(125)
وقد فسر
الطائف بالهمّ بالذنب ، أو إصابة الذنب ، وقوله : ( تذكَّروا ) أي عقاب الله وجزيل
ثوابه ، ووعده ووعيده ، فتابوا ، وأنابوا ، واستعاذوا بالله ، ورجعوا إليه من قريب
. ( فإذا هم مُّبصرون ) أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه . وهذا يدل على أن
الشيطان يكاد يجعل الإنسان في عماية لا يرى الحق ولا يبصره بما يلقيه عليه من
غشاوة ، وما يغشي به القلب من الشبهات والشكوك .
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشيطان قال لرب العزة : ( وعزتك يا رب لا
أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الربّ : وعزتي وجلالي لا أزال
أغفر لهم ما استغفروني ) . رواه أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه (10) .
هذه حال عباد الله : الرجوع من قريب ، والتوبة والإنابة إلى الله ، ولهم في ذلك
أسوة بأبيهم آدم ، فإنه لما أكل من الشجرة ، تلقى من ربه كلمات فتاب عليه ، وتوجه
آدم وزوجه إلى الله قائلين : ( ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لَّم تغفر لنا وترحمنا
لنكوننّ من الخاسرين ) [ الأعراف : 23 ] .
أما أولياء الشيطان فهم كما قال الله فيهم : ( وإخوانهم يمدُّونهم في الْغَيِّ
ثمَّ لا يقصرون ) [ الأعراف : 202 ] .
والمراد بإخوانهم هنا : إخوان الشياطين من الإنس كقوله : ( إنَّ المبذرين كانوا
إخوان الشَّياطين ) [ الإسراء : 27 ] ، وهم أتباعهم والمستمعون لهم ، القابلون
لأوامرهم يمدونهم في الغيّ : أي بالتزيين والتحسين للذنوب والمعاصي ، بلا كلل ولا
ملل . كقوله : ( ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين تؤزُّهم أزّاً ) [
مريم : 83 ] .
تاسعاً : أزل اللبس والغموض الذي يدخل الشيطان منه إلى النفوس :
لا تقف مواقف الشبهة ، وإذا حدث ذلك فَوَضّحْ للناس حالك ، حتى لا تدع للشيطان
فرصة الوسوسة في صدور المسلمين ، ولك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا
.
(126)
روى
البخاري ومسلم في صحيحيهما عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً ، فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ، ثم قمت
فانقلبت ، فقام معي ليَقْلبني (11) ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمرّ
رجلان من الأنصار ، فلمّا رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا : سبحان الله ،
يا رسول الله !! قال : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن
يقذف في قلوبكما شراً ) ، أو قال : ( شيئاً ) (12) .
قال الخطابي : " في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر
من المكروه مما تجري به الظنون ، ويخطر بالقلوب ، وأن يطلب السلامة من الناس
بإظهار البراءَة من الريب " .
ويحكى في هذا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : " خاف النبي صلى الله عليه
وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمره فيكفرا ، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم شفقة
منه عليهما لا على نفسه " (13) .
ومما أرشدنا الله إليه القول الحسن مع الآخرين حتى لا يدخل الشيطان بيننا وبين
إخواننا ، فيوقع العداوة بيننا والبغضاء ، قال تعالى : ( وقل لعبادي يقولوا الَّتي
هي أحسن إنَّ الشَّيطان ينزغ بينهم ) [ الإسراء : 53 ] .
وهذا أمر تساهل فيه بعض الناس ، فتراهم يقولون الكلام الموهم الذي يحتمل وجوهاً
عدة بعضها سيِّء ، وقد يرمي أحدهم أخاه بألفاظ يكرهها ، ويناديه بألقاب يمقتها ،
فيكون ذلك مدخلاً للشيطان ، فيفرق بينهما ، ويحل العداء محل الوفاق والألفة .
النفس البشرية في معترك الصراع :
(127)
في ختام
هذا الفصل أحب أن أثبت مبحثاً مهماً من كلام ابن القيم صوّر فيه – رحمه الله –
حقيقة الصراع وطبيعته ، يقول ابن القيم ما ملخصه : " اختار الله الإنسان من
بين خلقه فكرمه واصطفاه ، وجعله محلاً للإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والرجاء
، وابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة ، وابتلاه بعدوه إبليس ، لا يفتر عنه "
(14) .
ثم يقول ابن القيم ما نصه : " فهو ( أي الشيطان ) يدخل عليه من الأبواب التي
هي من نفسه وطبعه ، فتميل نفسه معه ؛ لأنه يدخل عليها بما تحب ، فيتفق هو ونفسه
وهواه على العبد : ثلاثة مسلطون آمرون ، فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم ، والجوارح
آلة منقادة ، فلا يمكنها إلا الانبعاث ، فهذا شأن هذه الثلاثة ، وشأن الجوارح ،
فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا .
هذا مقتضى حال العبد ، فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر ،
وأمدّه بمدد آخر ، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه ، فأرسل إليه رسوله ، وأنزل
عليه كتابه ، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان ، فإذا أمره الشيطان بأمر ، أمره
الملك بأمر ربّه ، وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك ، فهذا يلم به مرة ، وهذا
مرة ، والمنصور من نصره الله عز وجل ، والمحفوظ من حفظه الله تعالى .
وجعل الله له مقابل نفسه الأمارة نفساً مطمئنة ، إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء ،
نهته عنه النفس المطمئنة ، وإذا نهته الأمارة عن الخير ، أمرته به النفس المطمئنة
، فهو يطيع هذه مرة ، وهذه مرة ، وهو الغالب عليه منهما ، وربما انقهرت إحداهما
بالكلية قهراً لا تقوم معه أبداً .
وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة ،
وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى ، فكلما أراد أن يذهب مع الهوى ، ناداه العقل
والبصيرة والنور : الحذر الحذر ، فإن المهالك والمتالف بين يديك ، وأنت صيد
الحرامية ، وقطّاع الطريق ، إن سرت خلف هذا الدليل .
(128)
فهو يطيع
الناصح مرة ، فيبين له رشده ونصحه ، ويمشي خلف دليل الهوى مرة ، فيقطع عليه الطريق
، ويؤخذ ماله ، وتسلب ثيابه ، فيقول : ترى من أين أتيت ؟
والعجب أنه يعلم من أين أُتي ، ويعرف الطريق التي قطعت عليه ، وأخذ فيها ، ويأبى
إلا سلوكها ، لأنّ دليله تمكن منه ، وتحكم فيه ، وقوي عليه ، ولو أضعفه بالمخالفة
له ، وزجره إذا دعاه ، ومحاربته إذا أراد أخذه ، لم يتمكن منه ، ولكن هو مكنه من
نفسه ، وهو أعطاه يده .
فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه ، فيباشره ثم يسومه سوء العذاب ، فهو يستغيث
فلا يغاث ، فهكذا يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة ، ثم يطلب الخلاص ، فيعجز
عنه .
فلما أن بُلي العبد بما بُلي به ، أعين بالعساكر والعدد والحصون ، وقيل : قاتل
عدوك وجاهده ، فهذه الجنود خذ منها ما شئت ، وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت منها ،
ورابط إلى الموت ، فالأمر قريب ، ومدة المرابطة يسيرة جداً ، فكأنك بالملك الأعظم
وقد أرسل إليك رسله ، فنقلوك إلى داره ، واسترحت من هذا الجهاد ، وفرق بينك وبين
عدوك ، وأطلقت في دار الكرامة تتقلب فيها كيف شئت ، وسجن عدوك في أصعب الحبوس وأنت
تراه .
فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أدخله وأغلقت عليه أبوابه ، وأيس من الروح
والفرج ، وأنت فيما اشتهت نفسك ، وقرّت عينك ، جزاءً على صبرك في تلك المدة
اليسيرة ، ولزومك الثغر للرباط ، وما كانت إلا ساعة ثمّ انقضت ، وكأن الشدة لم تكن
.
(129)
فإن ضعفت
النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه ، فليتدبر قوله عز وجل : ( كأنَّهم يوم
يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاَّ ساعةً من نَّهار ) [ الأحقاف : 35 ] وقوله عز وجل
: ( كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّةً أو ضُحَاهَا ) [ النازعات : 46 ]
، وقوله عزّ وجلّ : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين – قالوا لبثنا يوماً أو بعض
يومٍ فَاسْأَل العادين – قال إن لبثتم إلاَّ قليلاً لو أنَّكم كنتم تعلمون )
[المؤمنون : 112-114] ، وقوله تعالى : ( يوم ينفخ في الصُّور ونحشر المجرمين
يومئذٍ زرقاً – يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاَّ عشراً – نحن أعلم بما يقولون إذ
يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلاَّ يوماً ) [طه : 102-104] .
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً ، فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال ،
وذلك عند الغروب قال : ( إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا
فيما مضى منه ) . رواه أحمد في المسند ، والترمذي في سننه ، وقال الترمذي : حديث
حسن صحيح .
فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث ، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي
قد بقي من الدنيا بأسرها ، ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام ، وأنه قد باع سعادة
الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئاً ، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة
لأعطاه ذلك الحظ هنيئاً موفوراً وأكمل منه ، كما في بعض الآثار : " ابن آدم ،
بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعاً ، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعاً "
.
وقال بعض السلف : " ابن آدم ، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى
نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، أضعت نصيبك من الآخرة ، وكنت
من نصيب الدنيا على خطر ، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، فزت بنصيبك من الدنيا
فانتظمته انتظاماً " .
(130)
وكان عمر
بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته : " أيها الناس ، إنكم لم تخلقوا
عبثاً ، ولم تتركوا سدى ، وإن لكم معاداً يجمعكم الله – عزّ وجلّ – فيه للحكم فيكم
، والفصل بينكم ، فخاب وشقي عبد أخرجه الله – عزّ وجلّ – من رحمته التي وسعت كل
شيء ، وجنته التي عرضها السماوات والأرض .
وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى واتقى ، وباع قليلاً بكثير ، وفانياً
بباقٍ ، وشقاوة بسعادة ، ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين ، وسيخلفه بعدكم الباقون
؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غادياً رائحاً إلى الله قد قضى نحبه ، وانقطع
أمله ، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسّد ولا ممهد ، قد خلع الأسباب ، وفارق
الأحباب ، وواجه الحساب ؟ " .
والمقصود أن الله – عزّ وجلّ – قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود ،
والعدد ، والأمداد ، وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه ، وبماذا يَفتَكّ نفسه إذا
أسر .
وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه – والترمذي ، من حديث الحارث الأشعري ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنّ الله – سبحانه وتعالى – أمر يحي ابن زكريا صلى
الله عليه وسلم بخمس كلماتٍ : أن يعمل بها ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ،
وأنه كادَ أن يُبطئ بها ، فقال له عيسى عليه السلام : إن الله – تعالى – أمركَ
بخمس كلمات لتعمل بها ، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، فإما أن تأمرهم ، وإما
أن آمرَهُم ، فقال يحي : أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب ، فجمع يحي الناس في
بيت المقدس ، فامتلأ المسجد ، وقعدوا على الشرف ، فقال : إن الله – تبارك وتعالى –
أمرني بخمس كلمات أن أَعمَلَهُنّ ، وآمركُم أن تعملُوا بهن ) .
(131)
وخامس
هذه الخمسة التي أمرهم بها الذكر ، ( وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك
كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً ، حتى أتى على حصن حصين ، فأحرز نفسه منهم ،
كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى ) . قال الترمذي : هذا
حديث حسن صحيح .
ومما أمرهم به في الحديث الصلاة : ( آمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن
الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ) . والالتفات المنهي عنه في
الصلاة قسمان ؛ أحدهما : التفات القلب عن الله عزّ وجلّ إلى غير الله تعالى .
والثاني : التفات البصر . وكلاهما منهي عنه . ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما
دام العبد مقبلاً على صلاته ، فإذا التفت بقلبه أو بصره ، أعرض الله تعالى عنه .
وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة
فقال : ( هو اختلاسٌ يَخْتلِسُهُ الشيطانُ من صلاة العبد ) (15) .
وفي أثر : يقول الله تعالى : ( إلى خير مني ، إلى خير مني ؟ ) . ومثل من يلتفت في
صلاته ببصره أو بقلبه مثلُ رجل قد استدعاه السلطان ، فأوقفه بين يديه ، وأقبل
يناديه ويخاطبه ، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً ، وقد انصرف
قلبه عن السلطان ، فلا يفهم ما يخاطبه به ؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه ، فما ظنّ هذا
الرجل أن يفعل به السلطان ؟ أفليس أقل المراتب في حقّه أن ينصرف من بين يديه
ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه ؟ .
(132)
فهذا
المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته ، الذي قد أشعر
قلبه عظمة من هو واقف بين يديه ، فامتلأ قلبه من هيبته ، وذلت عنقه له ، واستحيى
من ربه تعالى أن يقبل على غيره ، أو يلتفت عنه . وبين صلاتيهما كما بين السماء
والأرض ، قال حسان بن عطية : إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة ، وإن ما
بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض ، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز
وجل ، والآخر ساهٍ غافل . فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله ، وبينه وبينه حجاب ، لم
يكن إقبالاً ولا تقريباً ، فما الظن بالخالق عزّ وجل ؟
وإذا أقبل على الخالق عزّ وجلّ ، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس ، والنفس
مشغوفة بها ، ملأى منها ، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار ،
وذهبت به كل مذهب ؟
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه ، فإنه قد قام في أعظم مقام ، وأقربه
وأغيظه للشيطان ، وأشده عليه ، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه ، بل
لا يزال به يعده ويمنّيه وينسيه ، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوّن عليه شأن
الصلاة ، فيتهاون بها فيتركها .
فإن عجز عن ذلك منه ، وعصاه العبد ، وقام في ذلك المقام ، أقبل عدو الله تعالى حتى
يخطر بنيه وبين نفسه ، ويحول بينه وبين قلبه ، فيذكره في الصلاة ، ما لم يكن يذكر
قبل دخوله فيها ، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة ، وأيس منها ، فيذكره إياها
في الصلاة ليشغل قلبه بها ، ويأخذه عن الله عزّ وجلّ ، فيقوم فيها بلا قلب ، فلا
ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عزّ وجلّ بقلبه
في صلاته ؛ فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله ، لم تخف عنه
بالصلاة ، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها ، وأكمل خشوعها ، ووقف بين يدي
الله تعالى بقلبه وقالبه .
(133)
فهذا إذا
انصرف منها وجد خفة من نفسه ، وأحس بأثقال قد وضعت عنه ، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً
، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها ، لأنها قرة عينيه ، ونعيم روحه ، وجنة قلبه ،
ومستراحه في الدنيا ، فلا يزال كأنه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها ، فيستريح بها ،
لا منها ، فالمحبون يقولون : نصلي فنستريح بصلاتنا ، كما قال إمامهم وقدوتهم
ونبيهم : ( يا بلالُ أرِحنا بالصلاةِ ) ، ولم يقل : أرحنا منها ، وقال صلى الله
عليه وسلم : ( جُعِلت قُرة عيني في الصلاةِ ) . فمن جعلت قرة عينه في الصلاة ، كيف
تقر عينه صلى الله عليه وسلم بدونها ، وكيف يطيق الصبر عنها ؟
وقد روي أن العبد إذا قام يصلي ، قال الله عز وجل : " ارفعوا الحجب ، فإذا
التفت ، قال : أرخوها " ، وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عزّ
وجلّ إلى غيره ، فإذا التفت إلى غيره ، أرخى الحجاب بينه وبين العبد ، فدخل
الشيطان ، وعرض عليه أمور الدنيا ، وأراه إياها في صورة المرآة ، وإذا أقبل بقلبه
على الله ولم يلتفت ، لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله – تعالى – وبين ذلك
القلب ، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب ، فإن فر إلى الله تعالى ، وأحضر قلبه
فر الشيطان ، فإن التفت حضر الشيطان ، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة .
كيف يجعل المصلي قلبه حاضراً في الصلاة ؟
وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عزّ وجلّ ، إذا قهر
شهوته وهواه ، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة ، وأسره الهوى ، ووجد الشيطان فيه مقعداً
تمكن فيه ، كيف يخلص من الوساوس والأفكار ؟ !
والقلوب ثلاثة : قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير ، فذلك قلب مظلم قد استراح
الشيطان من إلقاء الوساوس إليه ؛ لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً ، وتحكم فيه بما يريد
، وتمكن منه غاية التمكن .
(134)
القلب
الثاني : قلب قد استنار بنور الإيمان ، وأوقد فيه مصباحه ، لكن عليه ظلمة الشهوات
وعواصف الأهوية ، فللشيطان هناك إقبال وإدبار ، ومجالات ومطامع ، فالحرب دول وسجال
.
وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة ، فمنهم مَنْ أوقات غلبته لعدوه أكثر ،
ومنهم مَنْ أوقات غلبة عدوه له أكثر ، ومنهم من هو تارة وتارة .
القلب الثالث : قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان ، وانقشعت عنه حجب
الشهوات ، وأقلعت عنه تلك الظلمات ، فلنوره في صدره إشراق ، ولذلك الإشراق إيقاد
لو دنا منه الوسواس لاحترق به ، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم ، فلو دنا منها
الشيطان يتخطاها لرجم فاحترق ، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن ، وحراسة الله
تعالى له أتم من حراسة السماء ، والسماء متعبد الملائكة ، ومستقرّ الوحي ، وفيها
أنوار الطاعات ، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة ، والمعرفة والإيمان ، وفيه
أنوارها ، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو ، فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة .
وقد مثّل ذلك بمثال حسن ، وهو ثلاثة بيوت :
بيت الملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره .
وبيت للعبد فيه كنوز العبد ، وذخائره ، وجواهره ، وليس جواهر الملك وذخائره .
وبيت خال صفر لا شيء فيه ، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت ، فمن أيها يسرق ؟
فإن قلت : من البيت الخالي ، كان محالاً ؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يسرق ،
ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما : إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها ،
فقال : وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب ؟
وإن قلت : يسرق من بيت الملك ، كان ذلك كالمستحيل الممتنع ، فإن عليه من الحرس
واليزَك (16) ما لا يستطيع اللص الدنو منه ، كيف وحارسه الملك بنفسه ، وكيف يستطيع
اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله ؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث ،
فهو الذي يشن عليه الغارات .
فيلتأمل اللبيب هذا المثال ، ولينزله على القلوب ، فإنها على منواله .
(135)
فقلب خلا
من الخير كله ، وهو قلب الكافر والمنافق ، فذلك بيت الشيطان ، قد أحرزه لنفسه
واستوطنه ، واتخذه سكناً ومستقراً ، فأي شيء يسرق منه ، وفيه خزائنه وذخائره
وشكوكه وخيالاته ووساوسه ؟
وقلب قد امتلأ من جلال الله – عزّ وجلّ – وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه ،
فأي شيطان يجترئ على هذا القلب ؟ وإن أراد سرقة شيء منه ، فماذا يسرق ؟ وغايته أن
يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب يحصل له على غرة من العبد وغفلة لا بد له منها ،
إذ هو بشر ، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع .
وقلب فيه توحيد الله تعالى ، ومعرفته ، ومحبته ، والإيمان به ، والتصديق بوعده ،
وفيه شهوات النفس وأخلاقها ، ودواعي الهوى والطبع .
وقلب بين هذين الداعيين ؛ فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة والمحبة لله
تعالى وإرادته وحده ، ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطباع ، فهذا القلب
للشيطان فيه مطمع ، وله منه منازلات ووقائع ، ويعطي الله النصر من يشاء : ( وما
النَّصر إلاَّ من عند الله العزيز الحكيم ) [ آل عمران : 126 ] . وهذا لا يتمكن
الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه ، فيدخل إليه الشيطان ، فيجد سلاحه عنده ،
فيأخذه ويقاتل به ، فإن أسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات والأماني الكاذبة ،
وهي في القلب ، فيدخل الشيطان فيجدها عتيدة ، فيأخذها ويصول بها على القلب ، فإن
كان عند العبد عدة عتيدة ، من الإيمان تقاوم تلك العدة وتزيد عليها ، انتصف من
الشيطان ، وإلا فالدولة لعدوه عليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . فإذا أذن العبد
لعدوه ، وفتح له باب بيته ، وأدخله عليه ، ومكنه من السلاح يقاتله به ، فهو الملوم
.
فنفْسك لُم ولا تَلُم المطايا ××× ومُت كمداً فليس لك اعتذارُ "
--------------------------------
(1) تلبيس إبليس : 38 .
(2) صحيح سنن ابن ماجة : 1/225 . ورقمه : 2643 .
(3) صحيح الجامع : 4/147 .
(136)
(4) صحيح
مسلم : 3/1651 . ورقمه : 2084 . وصحيح سنن أبي داود : 2/780 . ورقمه : 3489 .
(5) صحيح مسلم : 3/1607 . ورقمه : 2033 .
(6) صحيح الجامع : 3/137 .
(7) صحيح الجامع : 3/57 .
(8) رواه مسلم في صحيحه : 1/48-49 . ورقمه : (17) ، (18) .
(9) رواه البخاري : 6/338 . ورقمه :3289 . ورواه مسلم : 4/2293 . ورقمه : 2994 .
واللفظ للبخاري . ورواه الترمذي . انظر صحيح سنن الترمذي : 2/355 . ورقمه : 2206 .
(10) صحيح الجامع : 2/72 .
(11) ليردني إلى منزلي .
(12) صحيح البخاري : 6/336 . ورواه مسلم : 4/1712 . ورقمه : 2175 . واللفظ لمسلم .
(13) تلبيس إبليس : 46 .
(14) الوابل الصيب : ص21 .
(15) رواه البخاري : 2/234 . ورقمه : 751 .
(16) يزك ويسك (بالتركية) : بمعنى المنع والحظر والزجر .
علاج الصرع
تحدثنا في ما مضى أن الشيطان قد يصيب الإنسان ، وهو ما نسميه الصرع أو مس الجن ،
وسنحاول أن نبين أسباب الصرع وعلاجه :
أسباب الصرع :
بيّن ابن تيمية (1) : " أن الصرع للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق ، كما يتفق
للإنس مع الإنس ... ، وقد يكون – وهو الأكثر – عن بغض ومجازاة ، مثل أن يؤذيهم بعض
الإنس ، أو يظنوا أنهم يتعمدون أذاهم إما ببول على بعضهم ، وإمّا بصب ماء حار ،
وإما بقتل بعضهم ، وإن كان الإنس لا يعرف ذلك ، وفي الجن جهل وظلم ، فيعاقبونه
بأكثر مما يستحقه ، وقد يكون عن عبث منهم وشرّ بمثل سفهاء الإنس " .
واجبنا تجاه هؤلاء :
ذكرنا أن الجن عباد مأمورون متعبدون بالشريعة ، فإذا استطاع المسلم أن يصل إلى
مخاطبتهم ، كما يحدث مع الجني الذي يصرع الإنسان ، وجب القيام بذلك .
(137)
فإذا كان
صرع الجني للإنسي من الباب الأول ( عن شهوة وهوى ) ، فهو من الفواحش التي حرمها الله
تعلى على الإنس والجن ، ولو كانت برضا الطرف الآخر ، فكيف مع كراهته ، فإنّه فاحشة
وظلم . فيخاطب الجن بذلك ، ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة ، أو فاحشة وعدوان ؛ لتقوم
الحجة عليهم بذلك ، ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذي أرسله إلى جميع
الثقلين : الإنس والجن .
وما كان من الثاني ( إيذاء بعض الإنس لهم ) ، فإن كان الإنسي لم يَعْلَمْ ،
فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ، ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة ، وإن كان قد فعل
ذلك في داره وملكه عرفوا بأنها ملكه ، فله أن يتصرف فيها بما يجوز ، وأنتم ليس لكم
أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم ، بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب
والفلوات ...
ويقول ابن تيمية (2) : " والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس ، أخبروا
بحكم الله ورسوله ، وأقيمت عليهم الحجة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، كما
يفعل بالإنس ؛ لأن الله يقول : ( وما كنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولاً ) [ الإسراء
: 15 ] ، وقال : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصُّون عليكم آياتي
وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) [ الأنعام : 130 ] ؟
النهي عن قتل حيَّات البيوت :
يقول ابن تيمية : " ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيّات البيوت
حتى تؤذن ثلاثاً " ، وقد سبق ذكر النصوص المبينة لذلك ، وقد ساق ابن تيمية
تلك النصوص ، ثمّ بين السبب الذي من أجله نهى عن قتل جنان البيوت فقال : "
وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز ، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق ، والظلم محرم
في كل حال ، فلا يحلّ لأحد أن يظلم أحداً ، ولو كان كافراً ، بل قال تعالى : ( ولا
يجر منَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتَّقوى ) [ المائدة :
8 ] .
(138)
فإذا
كانت حيات البيوت قد تكون جنّاً فتؤذن ثلاثاً ، فإن ذهبت وإلا قتلت ، فإنها إن
كانت حية قتلت ، وإن كانت جنية ، فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حيّة
تفزعهم بذلك ، والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلاً ،
وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك ، فلا يجوز " .
سب الجان وضربهم :
وذكر ابن تيمية أن واجب المؤمن نصرة أخيه المظلوم ، وهذا المصروع مظلوم ، ولكن
النصرة يكون بالعدل كما أمر الله ، فإذا لم يرتدع الجني بالأمر والنهي والبيان ،
فإنّه يجوز نهره وسبه وتهديده ولعنه ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع
الشيطان عندما جاء بشهاب ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام
: ( أعوذ بالله منك ، ألعنك بلعنة الله ثلاثاً ) .
وذكر أنه قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجني عنه إلى الضرب ، فيضرب ضرباً
كثيراً جدّاً ، والضرب إنما يقع على الجني ، ولا يحسه المصروع ، حتى يفيق المصروع
، ويخبره أنه لم يحس شيئاً من ذلك ، ولا يؤثر في بدنه ، ويكون قد ضرب بعصا قوية
على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة أو أكثر أو أقل ، بحيث لو كان على الإنسي
لقتله ، وإنما هو على الجني ، والجني يصيح ويصرخ ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة ،
ويذكر ابن تيمية أنه فعل هذا وجربه مرات كثيرة ، يطول وصفها .
أقول : وقد يستغل الضرب فيمن يظن أن فيه صرع وهو ليس كذلك ، فيكون فيه هلاك
المضروب ، ولذلك ينبغي تجنبِه .
الاستعانة على الجان بالذكر وقراءَة القرآن :
وخير ما يستعان به على الجني الذي يصرع الإنسان ذكر الله وقراءَة القرآن ، ومن
أعظم ذلك قراءَة آية الكرسي ، ( فإن من قرأها لا يزال عليه من الله حافظ ، ولا
يقربه شيطان حتى يصبح ) . كما صح الحديث بذلك .
(139)
يقول ابن
تيمية (3) : " ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من
التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته ، فإن لها
تأثيراً عظيماً في دفع الشياطين عن نفس الإنسان وعن المصروع ، وعمن تعينه الشياطين
، مثل أهل الظلم والغضب ، وأهل الشهوة والطرب ، وأرباب سماع المكاء والتصدية ، إذا
قرئت عليهم بصدق ، دفعت الشياطين ، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور
يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين ، وإنما هي من تلبيسات الشياطين على
أوليائهم المغضوب عليهم والضالين " .
طرد الرسول صلى الله عليه وسلم للجن من بدن المصروع :
فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ، فعن أم أبان بنت الوازع بن زارع
ابن عامر العبدي ، عن أبيها ، أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فانطلق معه بابن له مجنون ، أو ابن أخت له .
قال جدي : فلما قدمنا على رسول الله قلت : إن معي ابناً لي ، أو ابن أخت لي مجنون
، أتيتك به فتدعو الله له ، قال : ( ائتني به ) فانطلقت إليه ، وهو في الركاب ،
فأطلقت عنه ، وألقيت عنه ثياب السفر ، وألبسته ثوبين حسنين ، وأخذت بيده حتى
انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال : ( أدنه مني ، واجعل ظهره مما يليني ) . قال : فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه
وأسفله ، فجعل يضرب ظهره ، حتى رأيت بياض إبطيه ، ويقول : ( اخرج عدو الله ، اخرج عدو
الله ) .
فأقبل ينظر نظر الصحيح ، ليس بنظره الأول . ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين يديه ، فدعا له ، فمسح وجهه ، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى
الله عليه وسلم يفضل عليه . رواه الطبراني (4) .
وفي المسند أيضاً عن يعلى بن مرّة قال : " لقد رأيت من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثلاثاً ما رآها أحد قبلي ، ولا يراها أحد بعدي .
(140)
لقد خرجت
معه في سفر ، حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامراة جالسة معها صبي لها ، فقالت يا
رسول الله : هذا الصبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء ، يؤخذ في اليوم ما أدري كم
مرة ، قال : ( ناولينيه ) ، فرفعته إليه ، فجعلته بينه وبين واسطة الرحل ، ثم فغر
( فاه ) ، فنفث فيه ثلاثاً ، وقال ( بسم الله ، أنا عبد الله ، اخسأ عدو الله ) ،
ثم ناولها إياه ، فقال : ( القينا في الرجعة في هذا المكان ، فأخبرينا ما فعل )
قال : فذهبنا ، ورجعنا ، فوجدناها في ذلك المكان ، معها ثلاث شياه ، فقال : ( ما
فعل صبيك ؟ ) ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئاً حتى الساعة ، فاجترر
هذه الغنم ، قال : ( انزل خذ منها واحدة ، ورد البقية ) (5) .
وعن عثمان بن أبي العاص ؛ قال : لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الطائف ، جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أُصلي ، فلما رأيت ذلك ، رحلت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال :
( ابْنُ أَبِي العاصِ ؟ ) قلت : نعم : يا رسول الله ! قال : ( ما جاء بك ؟ ) ، قلت
: يا رسول الله ! عرض لي شيء في صلواتي ، حتى ما أدري ما أصلي . قال : ( ذلك
الشيطانُ . فادْنُهْ ) فدنوت منه . فجلست على صدور قدمي . قال ، فضرب صدري بيده ،
وتفل في فمي ، وقال : ( اخرُجْ . عَدُوّ الله ! ) ففعل ذلك ثلاث مرات . ثم قال : (
الحق بعَمَلكَ ) (6) .
(141)
وإذا
ابتلي المصروع ، ولم يجد علاجاً فصبر على بلواه ، فإن له عند الله أجراً عظيماً ،
ففي صحيح البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي عطاء بن أبي رباح : ( قال لي
ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال : هذه المرأة السوداء ،
أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع وإني أتكشف ، فادع الله لي . قال :
( إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) . فقالت : أصبر . فقالت
: إني أتكشف ، فادع الله لي أن لا أتكشف ، فدعا لها " .
حدثنا محمدٌ أخبرنا مخلدٌ عن ابن جريج أخبرني عطاء : أنه رأى أم زفر ، تلك المرأة
الطويلة السوداء ، على ستر الكعبة (7) . وذكر ابن حجر أن هذه المرأة قالت : "
إني أخاف الخبيث أن يجردني " (8) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أخرج الجني بالأمر والنهر واللعن ، ولكن هذه لا تكفي
وحدها ، فإنّ لقوة الإيمان وثبات اليقين وحسن الصلة بالله أثراً كبيراً في هذا ،
يدلك على ذلك ما سنورده في الواقعة التالية .
الإمام أحمد يأمر الجني بالخروج فيستجيب :
روي أنّ الإمام أحمد كان جالساً في مسجده ، إذ جاءَه صاحب له من قبل الخليفة
المتوكل ، فقال :
إن في بيت أمير المؤمنين جارية بها صرع ، وقد أرسلني إليك ، لتدعو الله لها
بالعافية .
فأعطاه الإمام نعلين من الخشب ، وقال :
اذهب إلى دار أمير المؤمنين ، واجلس عند رأس الجارية ، وقل للجني : قال لك أحمد :
أيما أحب إليك : تخرج من هذه الجارية ، أو تصفع بهذا النعل سبعين ؟
فذهب الرجل ومعه النعل إلى الجارية ، وجلس عند رأسها ، وقال كما قال له الإمام
أحمد .
فقال المارد على لسان الجارية : السمع والطاعة لأحمد ، لو أمرنا أن نخرج من العراق
لخرجنا منه ، إنه أطاع الله ، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء ، ثم خرج من الجارية ،
فهدأت ، ورزقت أولاداً .
(142)
فلما مات
الإمام ، عاد لها المارد ، فاستدعى لها الأمير صاحباً من أصحاب أحمد ، فحضر ، ومعه
ذلك النعل ، وقال للمارد : أخرج وإلا ضربتك بهذا النعل .
فقال المارد : لا أطيعك ولا أخرج ، أما أحمد بن حنبل ، فقد أطاع الله فأمرنا
بطاعته .
ما ينبغي أن يكون عليه المعالج :
وينبغي للمعالج أن يكون قوي الإيمان بالله معتمداً عليه ، واثقاً بتأثير الذكر
وقراءَة القرآن ، وكلما قوي إيمانه وتوكله قوي تأثيره ، فربما كان أقوى من الجني
فأخرجه ، وربما كان الجني أقوى فلا يخرج ، وربما كان المخرج للجني ضعيفاً ، فتتقصد
الجن إيذاءَه ، فعليه بكثرة الدعاء والاستعانة عليهم بالله ، وقراءَة القرآن ،
خاصة آية الكرسي .
الرقى والتعاويذ :
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى (9) : " وأما معالجة الموضوع بالرقى ،
والتعويذات فهذا من وجهين :
فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها ، ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم به
الرجل ، داعياً الله ، ذاكراً له ، ومخاطباً لخلقه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز أن يرقي
بها المصروع ، ويعوذه ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( اعرضوا عليَّ رقاكم ، لا بأس بالرقى : ما لم يكن فيه شرك ) (10) ، وقال : ( من
استطاع منكم أن ينفع أخيه فلينفعه ) (11) .
وإن كان في ذلك كلمات محرمة ، مثل أن يكون فيها شرك ، أو كانت مجهولة المعنى ،
يحتمل أن يكون فيها كفر ، فليس لأحد أن يرقي بها ولا يعزم ، ولا يقسم ، وإن كان
الجني قد ينصرف عن المصروع بها ، فإنّ ما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه .
وذكر في موضع آخر (12) : " أن أرباب العزائم الشركية كثيراً ما يعجزون عن دفع
الجني ، وكثيراً ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه
، فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ، ويكون ذلك تخييلاً وكذباًً .
استرضاء الجن :
(143)
وبعض
الناس يحاولون استرضاء الجني الذي يصرع الإنسان بالذبح له ، وهذا من الشرك الذي
حرمه الله ورسوله ، وروي أنه نهى عن ذبائح الجن .
وقد يزعم بعض الناس أن هذا من باب التداوي بالحرام ، وهذا خطأ كبير ، فالصواب أن
الله لم يجعل الشفاء في شيء من المحرمات ، وعلى القول بجواز التداوي بالمحرمات
كالميتة والخمر ، فلا يجوز أن يستدل بذلك على الذبح للجني ؛ لأن التداوي بالمحرمات
فيه نزاع لبعض العلماء ، أمّا التداوي بالشرك والكفر ، فلا خلاف بين العلماء في
تحريمه ، ولا يجوز التداوي به باتفاق .
وفي الختام أحب أن أنبه أن ليس كل صرع فهو من الجان ، فمنه ما هو أمراض عارضة لها
أسبابها التي قد يعلمها الأطباء ، وقد لا يعلمونها ، وهذا لا ينفي معالجة أمثال
هؤلاء بالقرآن والرقى ، فالقرآن والرقى لها أثر في الشفاء من جميع الأدواء .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 19/39 .
(2) مجموع الفتاوى : 19/42 .
(3) مجموع الفتاوى : 19/55 .
(4) مجمع الزوائد : 9/2 . وقال الهيثمي فيه : وأم أبان لم يرو عنها غير مطر . وذكر
الهيثمي الحديث من رواية أحمد في مسنده بأخصر مما ذكره الطبراني .وقال : فيه هند
بنت الوازع لم أعرفها ، وبقية رجاله ثقات .
(5) رواه أحمد في مسنده : 4/170 ، وروى الدارمي ، (1/15 . ورقمه : 17) هذه القصة
بلفظ مقارب عن جابر رضي الله عنه .
(6) صحيح سنن ابن ماجة : 2/273 . ورقمه : 2858 .
(7) صحيح البخاري : 10/114 . ورقمه : 5652 .
(8) فتح الباري : 10/115 .
(9) مجموع الفتاوى : 24/277 .
(10) صحيح مسلم : 4/1727 . ورقمه : 2200 .
(11) صحيح مسلم : 4/1727 . ورقمه : 2199 .
(12) مجموع الفتاوى : 19/46 .
الحكمة من خلق الشيطان
(144)
الشيطان
منبع الشرور والآثام ، فهو القائد إلى الهلاك الدنيوي والأخروي ، ورافع الراية في
كل وقت ومكان ، يدعو الناس إلى الكفران ، ومعصية الرحمن ، فهل في خلقه من حكمة ؟
وما هذه الحكمة ؟
أجاب عن هذا السؤال ابن القيم رحمه الله تعالى فقال (1) : " في خلق إبليس
وجنوده من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله " .
فمن ذلك :
1- ما يترتب على مجاهدة الشيطان وأعوانه من إكمال مراتب العبودية :
فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ،
ومخالفته ومراغمته في الله ، وإغاظته وإغاظة أوليائه ، والاستعاذة به منه ،
واللجوء إليه أن يعيذهم من شرّه وكيده ، فيترتب على ذلك من المصالح الدنيوية
والأخروية ما لم يحصل بدونه ... والموقوف على الشيء لا يحصل بدونه .
2- خوف العباد من الذنوب :
ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه ،
وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ، ولا ريب أن
الملائكة لما شاهدوا ذلك ، حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى ، وخضوع آخر ، وخوف
آخر ، كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت
منه كل مبلغ ، وهم يشاهدونه ، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد .
3- جعله الله عبرة لمن اعتبر :
ومنها أن الله جعله عبرة لمن خالف أمره ، وتكبر عن طاعته ، وأصرّ على معصيته ، كما
جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه ، أو عصى أمره ، ثم تاب وندم ورجع إلى ربه
، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب ، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرّ وأقام على ذنبه ،
وهذا الأب عبرة إن تاب ورجع إلى ربه ، فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة ،
والآيات الظاهرة .
4- جعله فتنة واختباراً لعباده :
(145)
ومنها
أنّه محك امتحن الله به خلقه ، ليتبين به خبيثهم من طيبهم ، فإنه – سبحانه – خلق
النوع الإنساني من الأرض ، وفيها السهل والحزن ، والطيب والخبيث ، فلا بد أن يظهر
ما كان في مادتهم ، ففي الحديث عن أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : ( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جمع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر
الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، والسهل والحزن ، والطيب والخبيث ) .رواه
أحمد والترمذي وأبو داود (2) .
فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها ، فاقتضت الحكمة الإلهية
إخراجه وظهوره ، فلا بدّ إذاً من سبب يظهر ذلك ، وكان إبليس محكّاً يميز به الطيب
من الخبيث ، كما جعل أنبياءه ورسله محكّاً لذلك التمييز ، قال تعالى : ( مَّا كان
الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتَّى يميز الخبيث من الطَّيب ) [ آل عمران :
179 ] ، فأرسل رسله إلى المكلفين ، وفيهم الطيب والخبيث ، فانضاف الطيب إلى الطيب
، والخبيث إلى الخبيث .
واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان ، فإذا صاروا إلى دار القرار يميز
بينهم ، وجعل لهؤلاء داراً على حدة ، ولهؤلاء داراً على حدة ، حكمة بالغة ، وقدرة
باهرة .
5- إظهاره كمال قدرته سبحانه بخلق الأضداد :
ومن هذه الحكم أن يظهر كمال قدرته بخلق الأضداد ، مثل جبريل والملائكة وإبليس
والشياطين ، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه ؛ فإنه خالق الأضداد كالسماء
والأرض ، والضياء والظلام ، والجنة والنار ، والماء والنار ، والحر والبرد ،
والطيب والخبيث .
6- الضد يظهر حسنه الضد :
ومن هذه الحكم أنَّ خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده ، فإنَّ الضد إنما يظهر حسنه
بضده ، فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ، ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنى .
7- الابتلاء به إلى تحقيق الشكر :
(146)
ومن هذه
الحكم أنه سبحانه ، يحبّ أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ، ولا ريب أن أولياءَه
نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده ، وامتحانهم به من أنواع شكره ، ما لم يكن
ليحصل لهم بدونه ، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة ، قبل أن يخرج منها ، وبين شكره
بعد أن ابتلي بعدوه ، ثم اجتباه ربه ، وتاب عليه وقبله .
8- في خلق إبليس قيام سوق العبودية :
ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أحب العبودية إلى الله
سبحانه ، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله، وتقديم محبته على كل
ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية ، وأحبها إلى الرب سبحانه ، فكان في خلق إبليس
وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصي حكمها وفوائدها ، وما فيها من
المصالح إلا الله .
9- وترتب على ذلك ظهور آياته وعجائب قدرته :
ومن هذه الحكم أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم ، من تمام ظهور آياته ،
وعجائب قدرته ، ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه ، كظهور آية
الطوفان ، والعصا ، واليد ، وفلق البحر ، وإلقاء الخليل في النار ، وأضعاف ذلك من
آياته ، وبراهين قدرته ، وعلمه ، وحكمته ، فلم يكن بُدّ من وجود الأسباب التي
يترتب عليها ذلك .
10- الخلق من النار آية :
ومن هذه الحكم أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد ، وفيها الإشراق
والإضاءَة والنور ، فأخرج منها – سبحانه – هذا وهذا ، كما أنّ المادة الترابية
الأرضية فيها الطيب والخبيث ، والسهل والحزن ، والأحمر والأسود والأبيض ، فأخرج
منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة باهرة ، وآية دالة على أنه ( ليس كمثله شيء وهو
السَّميع البصير ) [ الشورى : 11 ] .
11- ظهور متعلقات أسمائه :
(147)
ومن هذه
الحكم أن من أسمائه الخافض الرافع ، المعزِّ المذِّل ، الحكم العدل ، المنتقم ،
وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها أحكامها ، كأسماء الإحسان والرزق والرحمة
ونحوها ، ولا بدّ من ظهور متعلقات هذه وهذه .
12- ظهور آثار تمام ملكه وعموم تصرفه :
ومن هذه الحكم أنه سبحانه الملك التام الملك ، ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه
بالثواب والعقاب ، والإكرام والإهانة والعدل ، والفضل والإعزاز والإذلال ، فلا بدّ
من وجود من يتعلق به أحد النوعين ، كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر .
13- وجود إبليس من تمام حكمته تعالى :
ومن هذه الحكم أن من أسمائه الحكيم ، والحكمة من صفاته – سبحانه – وحكمته تستلزم
وضع كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ، فاقتضت خلق المتضادات ، وتخصيص كل
واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص ، وهل تتم الحكمة إلا
بذلك ؟ فوجود هذا النوع من تمام الحكمة ، كما أنه من كمال القدرة .
14- حمده تعالى على منعه وخفضه :
ومنها أن حمده – سبحانه – تام كامل من جميع الوجوه ، فهو محمود على عدله ومنعه ،
وخفضه ورفعه ، وانتقامه وإهانته ، كما هو محمود على فضله وعطائه ، ورفعه وإكرامه ،
فله الحمد التام الكامل على هذا وهذا ، وهو يحمد نفسه على ذلك كله ، ويحمده عليه
ملائكته ، ورسله وأولياؤه ، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم ، وما كان من لوازم
كمال حمده وتمامه ، فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة ، كما له عليه الحمد التام
، فلا يجوز تعطيل حمده ، كما لا يجوز تعطيل حكمته .
15- وبخلقه يظهر الله لعباده حلمه وصبره :
(148)
ومنها
أنه – سبحانه – يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره ، وأناته ، وسعة رحمته ، وجوده ،
فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ، ويضاده في حكمه ، ويجتهد في مخالفته ، ويسعى في
مساخطه ، بل يشبهه سبحانه وتعالى ، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ، ويرزقه ،
ويعافيه ، ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ، ويجيب دعاءَه ، ويكشف
عنه السوء ، ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءَته ،
فلله كم في ذلك من حكمة وحمد .
ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته ، كما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ،
يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ) . متفق عليه (3) .
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ،
فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليّ من
إعادته ، وأمّا شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد
ولم أولد ، ولم يكن لي كفواً أحد ) . رواه البخاري (4) .
وهو سبحانه مع هذا الشتم له ، والتكذيب له ، يرزق الشاتم المكذب ، ويعافيه ، ويدفع
عنه ، ويدعوه إلى جنته ، ويقبل توبته إذا تاب إليه ، ويبدله بسيئاته حسنات ، ويلطف
به في جميع أحواله ، ويؤهله لإرسال رسله ، ويأمرهم أن يلينوا له القول ، ويرفقوا
به .
قال الفضيل بن عياض : " ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل – جلّ جلاله
– مَن أعظم مني جوداً ، الخلائق لي عاصون ، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم ، كأنهم لم
يعصوني ، وأتولى حفظهم ، كأنهم لم يذنبوا ، أجود بالفضل على العاصي ، وأتفضل على
المسيء .
من ذا الذي دعاني فلم ألبه ؟ من ذا الذي سألني فلم أعطه ؟
(149)
أنا
الجواد ومني الجود ، أنا الكريم ومني الكرم ، ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني ،
وأعطيه ما لم يسألني ، ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني ، فأين عني يهرب
الخلق ، وأين عن بابي ينتحي العاصون ؟ " .
وفي أثر إلهي : ( إني والإنس والجن في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر
سواي ) .
وفي أثر حسن : ( ابن آدم ما أنصفتني : خيري إليك نازل ، وشرّك إلي صاعد ، كم أتحبب
إليك بالنعم ، وأنا غني عنك ، وكم تتبغض إلي بالمعاصي ، وأنت فقير إلي ، ولا يزال
المَلَكُ الكريم يَعْرُج إلي منك بعمل قبيح ) .
وفي الحديث الصحيح : ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون
، فيغفر لهم ) .
16- خلق الله خلقه بحيث يظهر فيهم أحكام أسمائه وصفاته وآثارها :
فالله سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده ، وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر
فيهم أحكامها وآثارها ، فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه ، ولمحبته للمغفرة
خلق من يغفر له ، ويحلم عنه ، ويصبر عليه ، ولا يعاجله ، بل يكون يحب أمانه
وإمهاله .
ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته ، ولمحبته للجود والإحسان
والبر خلق من يعامله بالإساءَة والعصيان ، وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان ،
فلولا خلقه من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات ، لفاتت هذه الحكم
والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها ، فتبارك الله رب العالمين ، وأحكم الحاكمين ،
ذو الحكمة البالغة ، والنعم السابغة ، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته ، وله
في كل شيء حكمة باهرة ، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات .
17- ما حصل بسبب وجود الشيطان من محبوبات للرحمن :
(150)
فكم حصل
بسبب هذا المخلوق البغيض للرب ، المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى ، يتصل في
حبه ما حصل به من مكروه ، والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال
المكروه الذي يبغضه ويسخطه ، إذا كان طريقاً إلى حصول ذلك المحبوب . ووجود الملزوم
بدون لازمه محال .
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل ، فكم حصل بسبب وجوده ،
ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ، ومخالفة هوى
النفس وشهوتها له ، ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته ، وأحبّ شيء للحبيب
أن يرى محبّه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته .
من أجلك قد جعلت خدي أرضا ××× بغيتي للشامت والحسود حتى ترضى
ومن أثر إلهي : ( بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي ) ، فالله ما أحب إليه احتمال
محبيه أذى أعدائه لهم فيه ، وفي مرضاته ، وما أنفع ذلك الأذى لهم ، وما أحمدهم
لعاقبته ، وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به ، ولكن حرام على
منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة ، أو يدخلوا من هذا الباب ، أو يذوقوا من
هذا الشراب .
قل للعيون العمي للشمس أعين ××× سواك يراها في مغيب ومطلع
وسامح بؤساً لم يؤهل لحبهم ××× فما يحسن التخصيص في كل موضع
فإن أغضب هذا المخلوق ربه ، فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه ، وذلك الرضا
أعظم من ذلك الغضب ، وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات ، فإنّه
سبحانه أشدّ فرحاً بتوبة عبده من الفاقد لراحلته ، التي عليها طعامه وشرابه ، إذا
وجدها في المفاوز المهلكات ، وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو
اللعين ، فقد سرّه وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه
، وهذا الرضا أعظم عنده وأبرّ لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي
المحبوب .
(151)
وإن
أسخطه أكل آدم من الشجرة ، فقد أرضاه توبته وإنابته ، وخضوعه وتذلله بين يديه
وانكساره له .
وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله صلى الله عليه وسلم من حرمه وبلدته ذلك الخروج ،
فقد أرضاه أعظم الرضا دخوله إليها ذلك الدخول .
وإن أسخطه قتلهم أولياءه وأحبابه ، وتمزيق لحومهم ، وإراقة دمائهم ، فقد أرضاه
نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ، ولا أنعم ، ولا ألذّ في قربه وجواره .
وإن أسخطه معاصي عباده ، فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة
مغفرته وعفوه وبرّه وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك ، وحمده وتمجيده بهذه الأوصاف
التي حمده بها والثناء عليه بها ، أحب إليه ، وأرضى له من فوات تلك المعاصي ،
وفوات هذه المحبوبات .
واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله ، فهو عقد نظام الخلق والأمر ، والرب
تعالى له الحمد كلّه بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه ، فما خلق شيئاً ، ولا حكم
بشيء إلا وله فيه الحمد ، فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره ، حمداً حقيقياً يتضمن
محبته والرضا به وعنه ، والثناء عليه ، والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه
وأمر به ، فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده ... فكما أنه لا يكون إلا حميداً فلا يكون
إلا حكيماً ، فحمده وحكمته كعلمه وقدرته ، وحياته من لوازم ذاته ، ولا يجوز تعطيل
شيء من صفاته وأسمائه ومقتضياتها وآثارها ، فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله
وكبرياءه وعظمته .
18- محبته سبحانه أن يكون ملاذاً ومعاذاً لأوليائه :
وفي هذا يقول ابن القيم : " كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه
يجود ويعطي ويمنح ، فمنها أنّه يعيذ وينصر ويغيث ، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون
يحب أن يعوذ به العائذون ، وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ، ويعوذوا بهم ، كما
قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ××× ومن أعوذ به مما أحاذره
(152)
لا يجبر
الناس عظماً أنت كاسره ××× ولا يهيضون عظماً أنت جابره
ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله .
والمقصود أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه ، وأن يعوذوا به ، كما أمر رسوله
أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه ، وبذلك يظهر تمام نعمته على
عبده إذا أعاذه وأجاره من عدوه ، فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين ،
والله تعالى يحب أن يكمل نعمته على عباده المؤمنين ، ويريهم نصره لهم على عدوهم ،
وحمايتهم منه ، وظفرهم به ، فيا لها من نعمة كمل بها سرورهم ونعيمهم ، وعدل أظهره
في أعدائه وخصمائه .
وما منهما إلا له فيه حكمة ××× يقصر عن إدراكها كل باحث
الحكمة في بقاء إبليس إلى آخر الدهر :
تحدث ابن القيم ، رحمه الله ، عن ذلك في ( شفاء العليل ) (5) ووضحه ، فمن ذلك :
1- امتحان العباد :
فمما ذكره رحمه الله تعالى : أنّ الله جعله محكّاً ومحنة يخرج به الطيب من الخبيث
، ووليّه من عدوه ، ولذا اقتضت حكمته إبقاءَه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه ، ولو
أماته لفات ذلك الغرض ، كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر
الدهر ، ولو أهلكهم ألبتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم ، فكما اقتضت حكمته
امتحان أبي البشر ، اقتضت امتحان أولاده من بعده به ، فتحصل السعادة لمن خالفه
وعاداه ، وينحاز إليه من وافقه وولاه .
2- وأبقاه مجازاة له على صالح عمله السابق :
ومنها أنه لما سبق حكمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة ، وقد سبق له طاعة وعبادة
، جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر ، فإنه سبحانه لا يظلم
أحداً حسنة عملها ، فأمّا المؤمن ، فيجزيه بحسناته في الدنيا والآخرة ، وأمّا
الكافر ، فيجزيه بحسناته ما عمل في الدنيا ، فإذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له شيء
، كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
3- أملى له ليزداد إثماً :
(153)
وبقاؤه
إلى يوم القيامة لم يكن كرامة في حقه ، فإنّه لو مات كان خيراً له ، وأخف لعذابه ،
وأقل لشره ، ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم
لحكمه ، والقدح في حكمته ، والحلف على اقتطاع عباده ، وصدهم عن عبوديته ، كانت
عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه ، فأبقي في الدنيا ، وأملى له ليزداد إثماً ،
على إثم ذلك الذنب ، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره ، فيكون رأس أهل الشرّ في
العقوبة ، كما كان رأسهم في الشر والكفر . ولما كان مادة كل شر فعنه تنشأ ، جوزي
في النار مثل فعله ، فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ فيه ، ثم يسري منه إلى أتباعه
عدلاً ظاهراً وحكمة بالغة .
4- وأبقاه ليتولى المجرمين :
ومن حكم إبقائه إلى يوم الدين أنّه قال في مخاصمته لربّه : ( أرأيتك هذا الذَّي
كرَّمت عَلَيَّ لئن أخَّرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريَّته إلاَّ قليلاً ) [
الإسراء : 62 ] . وعلم الله – سبحانه – أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره
، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث أبقاه له ، وقال له بلسان القدر : هؤلاء
أصحابك وأولياؤك ، فاجلس في انتظارهم ، وكلما مرّ بك واحد منهم فشأنك به ، فلو صلح
لي ما ملكتك منه ، فإني أتولى الصالحين ، وهم الذين يصلحون لي ، وأنت ولي المجرمين
من الذين غنوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي ، قال تعالى : ( إنَّه ليس له سلطان على
الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون – إنَّما سلطانه على الَّذين يتولَّونه
والَّذين هم مشركون ) [النحل: 99-100].
(154)
فأما
إماتة الأنبياء والمرسلين ، فلم يكن ذلك لهوانهم عليه ، ولكن ليصلوا إلى محل
كرامته ، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم ، وليحيا الرسل
بعدهم ، يري رسولاً بعد رسول ، فإماتتهم أصلح لهم وللأمة ، أما هم فلراحتهم من
الدنيا ، ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور ، ولا سيما أنه قد خيرهم ربهم
بين البقاء في الدنيا واللحاق به .
وأمّا الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة ، بل أطاعوهم بعد مماتهم ، كما
أطاعوهم في حياتهم ، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم ، بل يعبدون الله بأمرهم
ونهيهم ، والله هو الحي الذي لا يموت ، فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمة
. هذا وهم بشر ، ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام ، بل جعلهم
خلائف في الأرض ، يخلف بعضهم بعضاً ، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم
خلائف ، ولضاقت بهم الأرض ، فالموت كمال لكل مؤمن ، ولولا الموت لما طاب العيش في
الدنيا ، ولا هناء لأهلها بها ، فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة .
إلى أي مدى نجح الشيطان في إهلاك بني آدم ؟
عندما رفض الشيطان السجود لآدم ، وطرده الله من رحمته وجنته ، وغضب عليه ولعنه ،
أخذ على نفسه العهد أمام ربّ العزة بأن يضلنا ويغوينا ، ويعبدنا لنفسه : ( لَّعنة
الله وقال لأتَّخذنَّ من عبادك نصيباً مَّفروضاً – ولأضلَّنَّهم ... ) [النساء :
118-119] ، ( قال أرأيتك هذا الَّذي كرَّمت عليَّ لئن أخَّرتن إلى يوم القيامة
لأحتنكنَّ ذريَّته إلاَّ قليلاً ) [الإسراء : 62] .
فإلى أي مدى حقق الشيطان مراده من بني الإنسان ؟
(155)
إن المسرّح
نظره في تاريخ البشرية يهوله ما يرى من ضلال الناس ، وكيف كذبوا الرسل والكتب ،
وكفروا بالله ربهم ، وأشركوا به مخلوقاته ، قال تعالى : ( وما أكثر النَّاس ولو
حرصت بمؤمنين ) [ يوسف : 103 ] ، ولذا حق عليهم غضب الله وانتقامه : ( ثمَّ أرسلنا
رسلنا تترا كلَّ ما جاء أمَّةً رَّسولها كذَّبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم
أحاديث فبعداً لقومٍ لا يؤمنون ) [ المؤمنون : 44 ] .
وفي الحاضر حيثما نظرنا أبصرنا أولياء الشيطان تعج بهم الحياة يرفعون رايته ،
وينادون بمبادئه ، ويعذبون أولياء الله ، ويدلنا على مدى تحقيق الشيطان لمراده ،
أن الله يأمر آدم يوم القيامة أن يخرج من ذريته بعث النار ، فلما يستفسر عن مقدار
هذا البعث يقول له : تسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ، وفي رواية : تسعمائة
وتسعة وتسعون في النار ، وواحد في الجنة (6) .
وبذلك يصدق ظنه في هذه الذرية التي لم تعتبر بما جرى لأبيها ، ولا بما جرى
لأسلافها ، ويبقى هذا اللعين يقودها إلى هلاكها ، بل أحياناً تسابقه إلى الجحيم .
وما أقبح أن يصدق ظن العدو في عدوه : ( ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه فاتَّبعوه
إلاَّ فريقاً من المؤمنين ) [ سبأ : 20 ] . قبيح الإنسان أن يتحقق فيه ظن الشيطان
، فيطيع هذا العدو ، ويعصي ربّه . ولقد بلغ الأمر حدّاً لا يوصف ولا يتصور ، فهذه
طائفة في العراق وفي جهات أخرى تطلق على نفسها : عباد الشيطان ، وبعض الكتاب نراهم
يحلفون ( بحق الشيطان ) ، فما أعجب أمرهم !
لا تفكر بكثرة الهالكين :
حريّ بالعاقل اللبيب أن لا يغتر بكثرة الهالكين ، فالكثرة ليس لها اعتبار في ميزان
الله ، إنما الاعتبار بالحقّ ولو قَلّ عدد متبعيه .
فكن من أتباع الحق الذين رضوا بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ،
الذين عرفوا الشيطان وأتباع الشيطان ، فحاربوهم بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان
، وقبل ذلك بالالتجاء إلى الرحمن ، والتمسك بدينه .
(156)
( يا
أيَّها الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه
لكم عدوٌّ مبين – فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أنَّ الله عزيز حكيم
) [ البقرة : 208-209 ] .
نسأل الله أن يجعلنا بمنه وكرمه من الذين دخلوا في السلم دخولاً كلياً ، وصلى الله
وسلم على عبده ورسوله محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
--------------------------------
(1) شفاء العليل : ص322 .
(2) مشكاة المصابيح : 1/36.ورقمه : 100 .
(3) مشكاة المصابيح : 1/14 . ورقمه : 23 .
(4) مشكاة المصابيح : 1/14 . ورقمه : 20 .
(5) شفاء العليل : 327 .
(6) الحديث رواهما البخاري وغيره . صحيح البخاري : 11/387 ، 388 وراجع مؤلف أ.د.
عمر الأشقر : الجنة والنار ، ص76 .
(157)